الوقت- في تطور لافت يكشف عن تصعيد جديد في خارطة الصراع الإقليمي، نقلت شبكة "سي إن إن" عن مصادر دبلوماسية أن الولايات المتحدة الأمريكية تدرس تنفيذ عملية برية في اليمن، بدعم بحري أمريكي وآخر بري من المملكة العربية السعودية، الهدف المُعلن لهذه العملية هو السيطرة على ميناء الحُديدة الاستراتيجي، الذي بات رمزًا لصمود اليمنيين ومفصلًا رئيسيًا في معركة البحر الأحمر.
الحديث عن عملية برية في اليمن يعيد إلى الأذهان التجربة المريرة التي عاشها التحالف السعودي الإماراتي طوال السنوات السبع الماضية، فقد دخلت الرياض وأبو ظبي حربًا شرسة على اليمن منذ عام 2015، مستخدمين أحدث ما في ترساناتهم العسكرية، وبغطاء سياسي دولي ودعم لوجستي واستخباراتي من القوى الغربية، وعلى رأسها واشنطن، ومع ذلك، لم يُحقق التحالف أهدافه، بل وجد نفسه غارقًا في مستنقع معقد، واجه فيه مقاومة شرسة من قِبَل حركة أنصار الله والقوات المسلحة اليمنية.
هل العملية البرية الأمريكية ممكنة؟
تحليل المعطيات الميدانية والواقعية يجعل الحديث عن هجوم بري أمريكي مباشر في اليمن خيارًا محفوفًا بالمخاطر، وربما أقرب إلى المغامرة غير المحسوبة، فعلى الرغم من التفوق التكنولوجي والعسكري الأمريكي، إلا أن اليمن ليس ساحة سهلة، التضاريس الجبلية الوعرة، والبنية المجتمعية المتماسكة، والعقيدة القتالية التي يتميز بها المقاتل اليمني، كلها عوامل تجعل من أي تدخل بري كارثة محتملة.
الجيش الأمريكي خاض حروبًا قاسية في العراق وأفغانستان، ومع كل ما أنفقه من مليارات الدولارات، لم ينجح في تحقيق استقرار أو نصر نهائي، واليمن، بطبيعته الجغرافية والاجتماعية، أعقد من تلك الساحات، فالشعب اليمني يحمل تاريخًا طويلًا من مقاومة الغزاة، وسرعان ما يتحول إلى جبهة واحدة ضد أي عدوان خارجي.
دور السعودية والإمارات.. هل تغير شيء؟
المؤشرات تفيد بأن الرياض وأبو ظبي لم تتعلما من الدرس بعد، إذ يشير التقرير إلى دعم سعودي بري متوقع للعملية المرتقبة، وكأن السنوات السبع الماضية بكل خسائرها وبؤس نتائجها لم تكن كافية لردعهما، لقد خسر التحالف السعودي الإماراتي مئات المليارات، وتعرض لانتكاسات عسكرية، وتآكلت صورته الإقليمية والدولية، وفي نهاية المطاف وجد نفسه مضطرًا إلى القبول بالهُدن والتسويات، دون أن يحقق أهدافه المعلنة بإضعاف أنصار الله أو السيطرة الكاملة على اليمن.
أما الإمارات، التي سحبت الجزء الأكبر من قواتها رسميًا، إلا أنها ما زالت حاضرة من خلال الميليشيات المحلية التي تمولها وتسلحها، فهي أيضًا ستجد نفسها أمام حقيقة أن أي تصعيد جديد سيقوّض ما تبقى من نفوذها الهش في جنوب اليمن.
أنصار الله.. قوة لا يُستهان بها
خلال السنوات الماضية، أثبتت حركة أنصار الله أنها ليست مجرد جماعة مسلحة تقاتل من الجبال، بل قوة سياسية وعسكرية متكاملة، تدير مؤسسات، وتحظى بتأييد شعبي واسع في الشمال والغرب اليمني، طورت الحركة من قدراتها العسكرية بشكل لافت، حيث امتلكت صواريخ باليستية، وطائرات مسيّرة دقيقة، نجحت في إصابة أهداف عسكرية حساسة داخل السعودية والإمارات، بل هددت المصالح الأمريكية والإسرائيلية في البحر الأحمر.
وما الهجمات الأخيرة التي شنتها ضد السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية إلا دليل إضافي على تطور قدراتها، واتساع رقعة المواجهة التي تخوضها، أنصار الله باتت طرفًا فاعلًا في محور المقاومة، وتحركاتها لم تعد محلية فقط، بل تحمل أبعادًا إقليمية ودولية.
اليمن.. مقبرة الغزاة
لطالما كانت اليمن عصيّة على الاحتلال، من العثمانيين إلى البريطانيين، واليوم يتكرر المشهد مع قوى إقليمية ودولية تحاول فرض سيطرتها، لكن الحقيقة الثابتة أن اليمن، بتاريخها وثقافتها وقبائلها، ترفض الخضوع، وتُحوّل أرضها إلى مقبرة لكل غازٍ.
الولايات المتحدة، إن قررت المضي قدمًا في هذه المغامرة، فإنها أمام تحدٍّ يفوق ما واجهته في فيتنام وأفغانستان، فالفشل لن يكون عسكريًا فقط، بل أخلاقيًا وسياسيًا، وسيفضح مجددًا ازدواجية معاييرها، وخصوصًا أن العملية تُبرر تحت عنوان "حماية المصالح الأمريكية"، في حين تُنتهك سيادة دولة ذات تاريخ وثقافة عريقة.
البُعد الجيوسياسي والبحر الأحمر كخط تماس جديد
التحرك العسكري الأمريكي المحتمل في اليمن لا يمكن فصله عن السياق الجيوسياسي الأوسع في الإقليم، ميناء الحُديدة لا يُمثل مجرد مرفق بحري على البحر الأحمر، بل هو نقطة استراتيجية تتحكم بخطوط الملاحة الدولية وتمتلك تأثيرًا مباشرًا على أمن التجارة العالمية، وخصوصًا المرتبطة بقناة السويس وإمدادات الطاقة.
مع اشتداد المواجهة بين محور المقاومة والتحالف الأمريكي الإسرائيلي، ومع تصاعد للقوات المسلحة اليمنية ضد السفن المرتبطة بـ"إسرائيل"، يبدو أن الولايات المتحدة تسعى لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فهي تحاول من جهة استعادة الهيبة المتآكلة بعد سلسلة انسحاباتها من أفغانستان والعراق، ومن جهة أخرى تأمين مصالحها الاقتصادية والعسكرية، وكبح تأثير أنصار الله المتزايد في هذا الممر المائي الحيوي.
لكن ما لا تدركه واشنطن أو تتجاهله، هو أن التحرك في هذه البقعة الملتهبة سيؤدي إلى تصعيد إقليمي أوسع، فأنصار الله لم تعد تنظيماً محلياً منعزلاً، بل باتت جزءاً أصيلاً من محور مقاومة إقليمي له امتداداته في لبنان والعراق وإيران وسوريا، وعليه، فإن أي تدخل سيفتح أبواب النار على أكثر من جبهة، ولن يكون مجرد معركة موضعية في الحُديدة.
منطق القوة لا يكسر الإرادة الشعبية
إن الاعتقاد بإمكانية حسم الصراع في اليمن عبر القوة العسكرية هو تكرار لكارثة سبق أن عاشتها واشنطن في فيتنام، ومؤخراً في أفغانستان، هذا النوع من الرهانات لا يُثمر سوى في تصوّر صُنّاع القرار داخل غرف العمليات، لكنه يتهاوى عند أول احتكاك حقيقي مع الأرض، ومع شعب يمتلك ثقافة مقاومة متجذّرة، لم تخضع على مدى قرون لأعتى الإمبراطوريات.
أنصار الله ليست مجرد ظاهرة مؤقتة، بل هي تعبير عن إرادة وطنية تشكلت في وجه العدوان، وتطورت لتكون ذراعًا سياسية وعسكرية واجتماعية قوية في اليمن، لقد خاضت المعارك في الجبال والسهول، وواجهت الحصار والمجاعة والدمار، لكنها بقيت متماسكة ومتصاعدة النفَس.
إن دخول الولايات المتحدة في مغامرة برية لن يختلف في نتائجه عن مغامرات سابقة في الشرق الأوسط، بل سيكون أكثر تكلفة وتعقيدًا، وسيثبت، مرة أخرى، أن الشعوب الحرة لا تُهزم بالقنابل الذكية ولا بالقوات الخاصة، وإنما تُهزم عندما تُفقد إرادتها... وهذا ما لا يبدو ممكنًا في اليمن.
في الختام.. في ظل المعطيات الحالية، أي هجوم بري على اليمن، سواء من الولايات المتحدة أو بدعم سعودي إماراتي، لن يحقق سوى المزيد من التصعيد والمعاناة، فالتجربة تؤكد أن الحل في اليمن لن يكون عسكريًا، بل سياسيًا يحترم إرادة اليمنيين، أما أنصار الله، فقد أثبتت أنها ليست مجرد حالة طارئة، بل مشروع وطني مقاوم، قادر على صدّ الغزاة، والتأثير في المعادلات الإقليمية، واليمن، كما علمتنا تجارب التاريخ، ستبقى عصيّة، وستُثبت من جديد أنها "مقبرة الغزاة" بامتياز.