الوقت- في خطوة مثيرة للجدل ومثقلة بالأبعاد السياسية والعسكرية، نشر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مقطع فيديو يُظهر لحظة استهداف جوي في اليمن، زاعمًا أن الهجوم استهدف تجمعًا لقيادات عسكرية يمنية تابعة لحركة أنصار الله، لكن ما تكشف لاحقًا من مصادر يمنية رسمية كان مختلفًا تمامًا، الضربة الجوية استهدفت تجمعًا مدنيًا خلال احتفال بعيد الفطر في محافظة الحديدة، وهو ما أدى إلى استشهاد وإصابة عشرات المدنيين، دون أن يكون لأي من الحاضرين علاقة بالعمل العسكري.
هذا الفعل من ترامب يفتح الباب على مصراعيه للتساؤل، لماذا ينشر رئيسٌ جمهوري صور قصفٍ قُتل فيه مدنيون، ثم يدّعي أنهم أهداف عسكرية؟
الإجابة تحمل في طياتها أبعادًا أعمق من مجرد دعاية أو محاولة للظهور بمظهر القائد الحازم، فمثل هذا التصرف يعكس مأزقًا سياسيًا وإعلاميًا كبيرًا تعيشه الإدارة الأمريكية ويُظهر مدى العجز الذي تعاني منه واشنطن في التعامل مع الملف اليمني، وخاصة بعد تصاعد قدرات الردع لدى القوات اليمنية وتصعيدها لعملياتها البحرية ضد السفن المرتبطة بالتحالف الأمريكي-الصهيوني.
ترامب، الذي طالما هاجم إدارة بايدن واعتبرها عاجزة عن اتخاذ قرارات حاسمة، يجد نفسه اليوم يُعيد إنتاج ذات السياسات، بل يذهب إلى مدى أبعد في التورط في جرائم حرب قد يُحاسب عليها في القانون الدولي، إن نشر مثل هذا الفيديو لا يُعد فقط محاولة لتبرير جريمة، بل هو دليل على الإفلاس السياسي والعسكري الذي تعاني منه واشنطن.
العجز الأمريكي أمام اليمن
منذ بدء العدوان على اليمن، راهنت واشنطن وحلفاؤها في المنطقة على حسم سريع يُسقط صنعاء خلال أسابيع، لكن السنوات أثبتت أن اليمن، رغم الحصار والقصف، لا يزال صامدًا، بل تمكن من تطوير قدراته الصاروخية والبحرية إلى درجة باتت تُهدد مصالح كبرى القوى، وقد جاءت العمليات اليمنية الأخيرة ضد السفن الإسرائيلية أو المرتبطة بالتحالف الأمريكي لتزيد من تعقيد المشهد.
أمام هذه المعادلة الجديدة، لم تجد واشنطن خيارًا سوى الرد بعنف على أهداف مدنية، في محاولة لكسر إرادة الصمود اليمني، لكن هذا الأسلوب لم يُنتج سوى المزيد من التنديد الدولي وتآكل صورة الولايات المتحدة كقوة عظمى تحترم القوانين الدولية.
ترامب بين الفشل العسكري والعزلة السياسية
يبدو واضحًا أن ترامب يُحاول استثمار الوضع في اليمن لتسجيل نقاط سياسية، لكنه في الواقع يُكرر يُحمّل الجيش الأمريكي أعباءً إضافية بلا أي نتائج ملموسة، وفي الوقت الذي يُطالب فيه الداخل الأمريكي بتقليص التكاليف العسكرية والانسحاب من صراعات خارجية لا جدوى منها، يُمعن ترامب في تسعير الحرب وتوسيع رقعتها.
بل إن هذا السلوك يُظهر إلى أي مدى وصلت حالة الانفصال بين ما تفعله القيادة الأمريكية في الخارج، وبين ما يريده المواطن الأمريكي العادي الذي بات يُدرك أن دماء جنوده تُسفك في حروب لا طائل منها، وبلا أهداف وطنية حقيقية.
التوظيف الإعلامي لجريمة
من الناحية الأخلاقية، فإن نشر فيديو يُظهر لحظة قصف تجمع مدني – حتى لو ادّعى ترامب أنه كان هدفًا عسكريًا – يُعد توظيفًا إعلاميًا فجًّا لجريمة حرب، بل إن هذا السلوك يُشبه إلى حد كبير ما تقوم به الأنظمة القمعية حين توثق جرائمها وتعرضها للتخويف أو الدعاية، ما كشفته المصادر اليمنية عن أن التجمع كان احتفالًا بعيد الفطر، وليس اجتماعًا عسكريًا، يُسقط كل المبررات التي ساقها ترامب، ويجعل من الضربة الجوية جريمة مكتملة الأركان، وخصوصًا أن اليمنيين أكدوا أن الضحايا لم تكن لهم أي صلة بالعمليات العسكرية.
بين غزة وصنعاء
اللافت في المشهد هو أن العمليات الأمريكية في اليمن تتزامن مع جرائم إسرائيلية في غزة، وكأن هناك تنسيقًا مباشرًا بين الطرفين في قمع إرادة الشعوب المقاومة، ويبدو أن الرسالة التي أراد ترامب إيصالها من خلال هذا الفيديو هي أن الولايات المتحدة لن تتردد في ضرب أي تحرك يُهدد مصالح الكيان الصهيوني، حتى لو كان على حساب المدنيين، لكن ما لم يُدركه ترامب هو أن هذه السياسة لم تعد تُخيف الشعوب، بل زادت من قناعتهم بضرورة المواجهة والصمود، وهذا ما أكده المصدر اليمني حين قال إن هذه الجريمة لن تُنسى، وأن القوات المسلحة اليمنية ستواصل الرد حتى رفع الحصار عن غزة ووقف العدوان.
الإصرار على الخطأ... واشنطن وسيناريو الانهيار الأخلاقي
في ضوء ما سبق، تتضح ملامح تحول خطير في سلوك الإدارة الأمريكية، يتمثل في الانحدار من منطق الهيمنة العسكرية إلى تبرير الفشل السياسي والأخلاقي باستخدام صور القتل كأدوات دعاية، ترامب، الذي لم يكتف بإشعال الأزمات خلال فترة رئاسته السابقة، يعود الآن في مشهد استعراضي يعكس عمق الورطة الأمريكية في اليمن، لكن هذه العودة ليست سوى إعادة إنتاج لأزمة لم تغادر موقعها منذ بداية العدوان.
ما يُثير القلق هو أن الإدارة الأمريكية، بدلًا من أن تتوقف لمراجعة استراتيجياتها في اليمن، تُمعن في مسار التبرير والدعاية، غير مدركة أن خصمها بات أكثر مرونة ومناعة، فعوضًا عن كسب الرأي العام أو ردع القوى اليمنية، جاءت ردود الفعل على فيديو ترامب لتعكس حالة من الاستهجان والرفض حتى داخل الأوساط الغربية، ما يعني أن واشنطن تخسر أخلاقيًا وإعلاميًا بالسرعة نفسها التي تخسر بها عسكريًا.
لقد كشف هذا الحدث بجلاء أن اليمن لم يعد مجرد ساحة للصراع الإقليمي، بل بات مرآة لعجز القوة الأمريكية عن فرض رؤيتها على الشعوب، وكلما استمرت واشنطن في إنكار الواقع، كلما زادت من تكاليفها العسكرية والإنسانية دون جدوى، إن أخطر ما في سلوك ترامب ليس فقط نشره لمقطع يُظهر جريمة حرب، بل إصراره على تقديم الكارثة كإنجاز، متجاهلًا أن في زمن الوعي الشعبي والمقاومة المنظمة، لا يمكن للدم أن يكون وسيلة لبناء مجد سياسي.
في النهاية، فإن تكرار الخطأ لا يُنتج إلا فشلًا أعمق، واليمن، بشعبه وصموده، أثبت أنه لم يعد رقعة هامشية في لعبة المصالح الدولية، بل عقدة تُربك الخطاب الأمريكي وتُعيد رسم خريطة الردع في المنطقة، ما فعله ترامب بنشره فيديو لجريمة حرب وتقديمها كإنجاز عسكري، يُظهر بجلاء أزمة أخلاقية وسياسية تعيشها الإدارة الأمريكية، إنه انعكاس لفشل مزدوج، عسكري في تحقيق الأهداف على الأرض، وسياسي في إقناع الداخل الأمريكي بعدالة التدخلات الخارجية، وبدلًا من البحث عن حلول سياسية، تُصرّ واشنطن على اعتماد منطق القوة، رغم أن التجربة أثبتت – في اليمن كما في غيره – أن الشعوب لا تُهزم بالقصف، بل تُولد من تحت الركام إرادات أقوى، إن محاولات ترامب لتوظيف دماء المدنيين في دعايته السياسية، لن تُغير شيئًا من المعادلة، بل ستُعمّق من مأزق واشنطن، وتجعل من كل صاروخ يُطلق على اليمن، دليلًا إضافيًا على أن أمريكا فقدت بوصلتها في هذا الجزء من العالم.