الوقت- في زمن تتكالب فيه الأزمات وتتسارع الأحداث، أطلقت المقاومة الفلسطينية، ممثلة بحركة حماس، نداءً عاجلاً يشبه صرخة في وادٍ سحيق، نفير عام للشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم للوقوف في وجه جرائم الاحتلال الصهيوني في غزة والقدس.
هذا النداء، الذي جاء في ظل تصاعد المخاطر وتفاقم المأساة الإنسانية، لم يكن مجرد دعوة عابرة، بل جرس إنذار يقرع ليوقظ ضمير أمة بدت غارقة في سبات عميق، لكن، هل ستُلبى الدعوة؟ أم إن الصمت سيظل السيد المطلق في مواجهة مشهد ينذر بالإبادة؟ من خلال هذا المقال التحليلي، سنستعرض مواقف الشخصيات السياسية والإعلامية العربية، ونحلل دلالاتها، لنصل إلى استنتاج يضعنا أمام مرآة الحقيقة العارية.
غزة على المذبح.. هل ستُحاكم الأنظمة على صمتها يومًا؟
قبل الغوص في المواقف، دعونا نرسم الصورة الكاملة، غزة، تلك البقعة المحاصرة، تواجه منذ أكثر من عام ونصف واقعًا يفوق الوصف، أكثر من 50 ألف شهيد، بينهم 18 ألف طفل، 12 ألف امرأة، 3500 مسن، و11 ألف مفقود تحت الأنقاض.
منذ بداية رمضان، انقطعت المواد الغذائية والطبية لثلاثة أسابيع متواصلة، وهو أمر لم يحدث بهذا الحد منذ 8 أكتوبر 2023، وفقًا لما أشار إليه الكاتب الصحفي مجدي أحمد حسين، الخطر الصهيوني لم يعد يهدد غزة وحدها، بل بات شبحًا يتربص بالجميع، كما يحذر معلنًا أن الكل في انتظار دوره على "المذبح"، هذا الواقع المرعب يضع الأمة أمام اختبار تاريخي إما الوقوف أو السقوط في هاوية الخذلان.
دعوة للتضامن العملي
مجدي أحمد حسين، رئيس تحرير صحيفة "الشعب" المصرية، يمثل صوتًا يرفض الصمت، دعوته للمصريين للمشاركة في وقفات احتجاجية أمام نقابة الصحفيين، والإفطار على ماء وخبز تضامنًا مع أهل غزة، تحمل دلالات عميقة، هذا الموقف ليس مجرد رد فعل عاطفي، بل محاولة لاستنهاض الهمم في بلد يرى حسين أنه لا يمكن أن "يتوارى" عن المشهد بينما تضج عواصم مثل عمان وصنعاء والرباط بالمظاهرات، حسين يعتبر أن هذا "أقل ما يمكن فعله" في ظل خذلان غزة الذي بلغ ذروته، مشيرًا إلى الأرقام المروعة للضحايا كدليل على فداحة الكارثة.
في الحقيقة يمكن القول إن دعوة حسين تعكس إدراكًا لمسؤولية الشعوب تجاه قضية فلسطين، لكنها تكشف أيضًا عن شعور بالعجز إزاء غياب تحرك رسمي قوي، اختياره لرمزية "الماء والخبز" يحمل بعداً أخلاقياً ودينياً، كأنه يستحضر قيم الصبر والتضحية، لكنه يضعنا أمام سؤال هل يكفي التضامن الرمزي في مواجهة آلة حرب منظمة؟ موقفه ينطوي على نقد ضمني للسلطات المصرية التي لم تتحرك بالقدر الكافي، ما يجعله صوتًا يائسًا ولكنه مصرّ على إبقاء الضوء مسلطًا على القضية.
موقف أسامة الألفي... الأسى والخزي
الكاتب الصحفي والأديب أسامة الألفي يقدم رؤية أكثر قتامة، في تعليقه على نداء حماس، يعبر عن "الأسى والعجز والخزي"، معتبرًا أن الشعوب العربية والإسلامية "مغلوبة على أمرها" تحت وطأة أنظمة مستبدة لا تهتم بالأقصى أو غزة، الألفي يذهب أبعد من ذلك، متهمًا بعض الحكام بالتواطؤ السري مع "مخطط الإبادة الصهيوني" مقابل بقائهم في السلطة، وفي رسالته لأبطال المقاومة، يحثهم على عدم انتظار المدد من شعوب عاجزة، مؤكدًا أن النصر أو الاستشهاد هما الخياران الوحيدان أمامهم.
إن موقف الألفي يتميز بالصراحة القاسية والتشاؤم العميق. هو لا يكتفي بنقد الشعوب، بل يوجه سهامه إلى الحكام، متهمًا إياهم بالخيانة المبطنة، هذا الاتهام، رغم خطورته، يعكس إحباطًا واسعًا في أوساط المثقفين العرب الذين يرون الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع الميداني، دعوته للمقاومة للاعتماد على نفسها تحمل بُعدًا واقعيًا، لكنها تكرس فكرة الانفصال بين الشعوب وقضاياها، ما يضعف من فكرة التضامن الجماعي، الألفي هنا يمثل صوت الضمير المعذب الذي يرى الحقيقة لكنه لا يملك أدوات تغييرها.
اعتياد الهزيمة
الشاعر عبد المنعم رمضان يقدم منظورًا فلسفيًا ونفسيًا للأزمة، يرى أن "اعتياد الهزيمة" هو المأساة الحقيقية، وأن الأمة لم تعد كيانًا موحدًا، بل تحولت إلى أفراد يبحثون عن نجاتهم الشخصية، في رأيه، النجاة الجماعية أصبحت مستبعدة في ظل الواقع الراهن، حيث تسود الفرقة والتشتت.
رمضان يضع يده على جرح عميق هو تآكل الهوية الجماعية للأمة، موقفه لا يحمل دعوة مباشرة للعمل، بل يشخص حالة نفسية واجتماعية تُفسر سبب ضعف الاستجابة لنداء المقاومة، تحليله يحمل طابعًا شعريًا يعبر عن الحسرة، لكنه يفتقر إلى الحلول، ما يجعله صوتًا تأمليًا أكثر منه عمليًا، مع ذلك، فإن تشخيصه لـ"اعتياد الهزيمة" يفتح الباب للتساؤل: هل يمكن للأمة أن تستعيد وحدتها أم إنها محكومة بالتفكك الأبدي؟
دعوة للتسوية الاستراتيجية
أحمد السيد النجار، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام الأسبق، يقدم رؤية عملية ومثيرة للجدل، في رسالته إلى المقاومة، يحثها على حماية قاعدتها الشعبية من خلال تقديم "تضحيات ذاتية"، ويدعو إلى تسوية تشمل ضمانات دولية، انسحاب الاحتلال، وحكم فلسطيني منتخب، هذا الموقف لاقى قبولًا من البعض كحل واقعي، لكنه قوبل بانتقادات حادة من آخرين يرون أن الاحتلال وداعميه مصرون على الإبادة ولن يتراجعوا.
إن موقف النجار يعكس عقلية المفكر البراغماتي الذي يسعى لإيجاد مخرج وسط في ظل أزمة مستعصية، دعوته للتسوية تحمل منطقًا سياسيًا يركز على الحفاظ على الشعب الفلسطيني ككيان حي، لكنها تثير تساؤلات حول جدوى الرهان على "ضمانات دولية" في ظل تاريخ طويل من الخذلان الغربي، الانتقادات التي واجهته تشير إلى أن هذا الطرح قد يُفسر كاستسلام مقنع.
دلالات المواقف
استعراض هذه المواقف يكشف عن تنوع في الرؤى، لكنه يبرز خيطًا مشتركًا، شعور عميق بالإحباط إزاء غياب تحرك جماعي فعال، حسين يدعو للتضامن الشعبي كخطوة رمزية، الألفي يرثي عجز الشعوب وخيانة الحكام، رمضان يشخص تآكل الهوية، والنجار يقترح تسوية عملية، لكن ما يجمع هذه الأصوات هو غياب الثقة في الأنظمة العربية، التي تُتهم إما بالصمت أو التواطؤ، المظاهرات في الأردن واليمن والمغرب، التي أشار إليها حسين، تظهر أن الشعوب لا تزال تملك نبضًا، لكن هذا النبض يبقى محصورًا في إطار ردود فعل محدودة دون دعم سياسي حقيقي.
الصمت... مشاركة في الجريمة
إذا كان نداء المقاومة قد وضع الكرة في ملعب الشعوب، فإن الصمت الرسمي العربي يضع الحكام أمام محكمة التاريخ، التاريخ يعلمنا أن السكوت على الظلم ليس حيادًا، بل مشاركة ضمنية فيه، عندما تُترك غزة لتواجه مصيرها وحدها، بينما تستمر بعض الأنظمة في علاقاتها الطبيعية مع الاحتلال أو داعميه، فإن هذا الصمت يصبح بمثابة توقيع على حكم الإعدام، الألفي أشار إلى ذلك بوضوح عندما تحدث عن حكام "يعملون سرًا" مع المخطط الصهيوني، وهو اتهام قد لا يثبت بالوثائق، لكنه يعكس تصورًا شعبيًا واسعًا.
الصمت ليس مجرد غياب كلام، بل غياب فعل. في ظل أرقام الضحايا المروعة التي قدمها حسين، وانقطاع المساعدات الذي يهدد بمجاعة شاملة، يصبح التزام الحياد أو الاكتفاء بالبيانات الشكلية نوعًا من التواطؤ الأخلاقي، الأمة التي ترفض الرد على هذا النداء لا تحمي نفسها فقط من مواجهة مباشرة، بل تُعرض نفسها لخطر أكبر: أن تصبح هدفًا تاليًا في مخطط الإبادة الذي لا يعرف حدودًا.
مصير الحكام... عاقبة الصمت
الحكام العرب الذين يختارون الصمت اليوم قد يظنون أنهم يحمون عروشهم، لكن التاريخ يقول غير ذلك، الشعوب التي تُخذل مرة بعد أخرى لا تبقى ساكنة إلى الأبد، الغضب المكبوت الذي عبر عنه الألفي ورمضان قد يتحول يومًا إلى ثورة، والحكام الذين يراهنون على بقائهم عبر التواطؤ أو التجاهل قد يجدون أنفسهم في النهاية يواجهون مصيرًا مشابهًا لما يحاولون تجنبه، غزة اليوم هي مرآة تعكس هشاشة الوضع العربي برمته، وعندما تسقط الستارة، لن يكون هناك مفر من الحساب – سواء من الشعوب أو من التاريخ.
في النهاية، في ضوء ما سبق، نصل إلى نتيجة لا مفر منها الصمت تجاه جرائم الاحتلال في غزة والقدس ليس مجرد تقصير، بل شكل من أشكال المشاركة فيها، كل يوم يمر دون تحرك حاسم يُضاف إلى سجل الخذلان، وكل صوت يُخمد يُمهد الطريق لمزيد من الدماء، الحكام العرب الذين يلتزمون الصمت، سواء بدافع الخوف أو المصلحة، يوقعون على حكم مؤجل بأنفسهم، فالظلم الذي يُترك دون رد لا يميز بين ضحاياه، المقاومة تنادي، والشعوب تنتظر، لكن السؤال يبقى، هل ستُكسر حلقة الصمت قبل أن يُطوى الكتاب، أم إن الأمة ستبقى شاهدة صامتة على إبادتها؟ الجواب يكمن فيما سنفعله الآن، لا غدًا.