الوقت- في سابقة غير معهودة داخل المؤسسة العسكرية "الإسرائيلية"، خرج مئات الطيارين من الاحتياط والمتقاعدين عن صمتهم، معلنين رفضهم العلني لاستمرار الحرب على قطاع غزة، في رسالة مباشرة إلى قيادتهم العسكرية والسياسية مفادها: "هذه ليست حربًا أمنية، بل نزاع سياسي يُزهق الأرواح".
هذا التمرد الداخلي، الذي عبّرت عنه عريضة غير مسبوقة وقعها أكثر من 970 من أفراد سلاح الجو، يمثل مؤشراً واضحًا على تصدع الجبهة الداخلية في "إسرائيل"، وعلى أن الأزمة لم تعد على حدود غزة، بل وصلت إلى داخل المؤسسة العسكرية ذاتها.
تمرُّد الطيارين.. غزة تكشف المستور
الرسالة التي وجهها الطيارون إلى قائد سلاح الجو، تومر بار، حملت دلالات صادمة للمؤسسة الإسرائيلية، فعوضاً عن الدعوة إلى استمرار القتال أو "إكمال المهمة"، جاءت الرسالة لتؤكد أن استمرار الحرب لا يخدم ما يسمى "الأمن القومي"، بل يخدم أهدافًا سياسية ضيقة تخص بقاء الحكومة واسترضاء جناحها اليميني المتطرف، الطيارون حذروا من أن العدوان المستمر لن يُحقق أهدافه، بل سيؤدي إلى مقتل جنود ومدنيين، ويعرض الرهائن "الإسرائيليين" المحتجزين في غزة للخطر.
بلغة صريحة، أكدت العريضة أن "اتفاقًا فقط هو الذي سيُعيد الرهائن بأمان، أما الضغط العسكري فإنه يؤدي بشكل رئيسي إلى مقتلهم، وتهديد حياة جنودنا"، في اعتراف نادر من قلب المؤسسة العسكرية بأن نهج نتنياهو ليس فقط فاشلًا، بل قاتلًا.
طرد الطيارين.. تصعيد يائس في وجه الحقيقة
رد فعل القيادة العسكرية والسياسية لم يكن احتواءً أو استماعًا، بل جاء قمعيًا، فقد أعلن متحدث عسكري أنه "بدعم كامل من رئيس هيئة الأركان، تقرر طرد أي طيار احتياط وقّع على الرسالة"، لم تشفع لهؤلاء الطيارين خبراتهم ولا تضحياتهم، لأن "البيانات التي تضعف الجيش وتقوي أعداءنا لا تُغتفر"، كما زعم مكتب نتنياهو.
هذه الخطوة، بدلًا من أن تُظهر الحزم، فضحت عمق الأزمة داخل جيش يترنح بين التماسك الظاهري والتمرد الفعلي، فالمؤسسة العسكرية تُعلن عن عجزها، وتؤكد أنها أداة سياسية بيد حكومة فقدت التوازن.
قيادات عسكرية ضد الحرب.. انهيار الإجماع
الموقعون على الرسالة لم يكونوا مجرد جنود هامشيين، بل شملت القائمة أسماء كبرى في "الجيش الإسرائيلي"، من أمثال الفريق المتقاعد دان حلوتس، والقائد الأسبق لسلاح الجو نمرود شيفر، وعدد من كبار الضباط الذين لطالما شكّلوا حجر الزاوية في الذراع الجوي الأكثر فتكًا وإجراماً، مشاركة هؤلاء تُشير إلى انهيار "الإجماع العسكري"، الذي طالما تغنّى به الإعلام العبري.
العريضة لم تدعُ إلى رفض الخدمة، لكنها حذّرت من الانزلاق إلى هاوية سياسية تُوظف الحرب لأغراض لا علاقة لها بأمن "إسرائيل"، الرسالة قالتها بوضوح: "هذه حرب تخدم مصالح شخصية وسياسية، لا أمنية"، وهي الجملة التي باتت تتردد كثيرًا في أوساط واسعة داخل الكيان.
بين إخفاقات الجبهة وغضب الداخل.. أزمة قيادة أم أزمة كيان؟
الرسالة جاءت في وقت حساس، إذ عاد جيش الاحتلال لاستئناف عدوانه على غزة منذ الـ 18 من مارس، رغم التوصل إلى اتفاق سابق بوساطة مصرية قطرية أمريكية، هذا الاستئناف لم يحقق أي تقدم ميداني حقيقي، بل زاد من الضغط على الأسرى الإسرائيليين، واستنزف قدرات الجيش وأدخل المجتمع الإسرائيلي في حالة من الانقسام والاحتقان الداخلي.
يعيش نتنياهو اليوم بين مطرقة المطالب الشعبية بإعادة الرهائن بأي ثمن، وسندان شركائه في الحكومة الذين يرفضون وقف الحرب أو عقد أي اتفاق، في المقابل، تقف حماس والمقاومة الفلسطينية على أرض صلبة، بعدما نجحت في فرض معادلة جديدة من خلال الصمود الميداني والتفاوضي، رغم المجازر التي ارتكبها الاحتلال، والتي أودت بحياة أكثر من 166 ألف شهيد وجريح منذ الـ 7 من أكتوبر، معظمهم من الأطفال والنساء.
"إسرائيل" في مأزق.. الجبهة الداخلية تتهاوى
حين يتحوّل سلاح الجو الإسرائيلي إلى ساحة للتمرد السياسي، وتُهدد القيادة بطرد طياريها لتكميم أفواههم، فإن الصورة تتجاوز مجرد خلل عسكري، نحن أمام كيان يتآكل من الداخل، بفعل الفساد السياسي، والتطرف الديني، والتغوّل العسكري على القرار المدني، وفي هذا المشهد، لا يبدو أن "إسرائيل" باتت قادرة على الاستمرار في حربها، لا ضد غزة... ولا ضد الحقيقة التي تتفجر داخلها.
أزمة هوية وطنية... أم بداية نهاية المشروع الصهيوني؟
الرسالة التي بعثها الطيارون ليست مجرد موقف من الحرب، بل هي مؤشّر على أزمة أعمق تضرب "المشروع الصهيوني" نفسه، عندما تبدأ نخب النخبة، كقادة سلاح الجو، في مساءلة جدوى العمليات العسكرية، ويُرفض الامتثال لأوامر الحرب، فإن ذلك يعكس أزمة في الهوية الوطنية الإسرائيلية، التي طالما تغذت على خطاب "الجيش لا يُناقَش".
اليوم، يبدو واضحًا أن المؤسسة العسكرية التي لطالما كانت "مقدسة" في التصور "الإسرائيلي"، بدأت تفقد هذه القدسية، الشارع لم يعد موحدًا، والنخبة لم تعد صامتة، والحكومة باتت في مواجهة جيشها وقضائها ومجتمعها، وهو مشهد يُعيد إلى الأذهان أزمات كبرى عصفت بإمبراطوريات تاريخية قبيل انهيارها.
في النهاية، ما يجري داخل "الجيش الإسرائيلي" اليوم لا يُعد تراجعًا تكتيكيًا، بل هو انهيار تدريجي في المنظومة الأخلاقية والسياسية التي يستند إليها الكيان، ففي الوقت الذي يُصرّ فيه نتنياهو على استمرار الحرب لأغراض سياسية، تنفجر من الداخل أصوات تطالب بوقفها بأي ثمن، وبينما تتماسك المقاومة وتصوغ معادلاتها بشجاعة، تتكشف ملامح فشل استراتيجي غير مسبوق في قلب المؤسسة الإسرائيلية، ولعل التاريخ سيكتب أن غزة لم تكن فقط ساحة مواجهة... بل كانت ساحة انكشاف الكيان أمام ذاته.