الوقت - في مشهد يعكس وحدة شعبية عابرة للحدود، عمّ الإضراب الشامل، أمس الإثنين، كل مناحي الحياة في مدن وبلدات الضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة، استجابة لنداء وطني وإنساني في وجه حرب الإبادة المستمرة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وامتدت أصداء هذا الإضراب لتتردد في أرجاء الشتات الفلسطيني، والعالم أجمع، معلنةً عن يوم عالمي للتضامن مع غزة، ورفضًا للعدوان الإسرائيلي الوحشي الذي لم يتوقف منذ أكتوبر 2023.
شلل تام في الضفة.. وصمت الشوارع يصرخ
منذ ساعات الصباح الأولى، بدت مدن الضفة الغربية كأنها توقفت عن التنفس، أُغلقت المدارس والجامعات والمحال التجارية، وتعطلت المواصلات العامة، باستثناء الحالات الطارئة، كما توقفت المؤسسات الرسمية والخاصة عن العمل، في التزام واسع بالدعوة التي أطلقتها القوى والفصائل الوطنية والإسلامية، إلى جانب حركات شبابية وشعبية.
حتى المحافظات المنكوبة، مثل جنين وطولكرم، اللتين تعانيان من عدوان إسرائيلي مستمر منذ مطلع العام، انضمت إلى الإضراب رغم ما تعانيه من دمار ونزوح، مؤكدة أن الألم واحد والمعركة واحدة.
وفي القدس المحتلة، خلت الشوارع من المارة، وأغلقت المحال في البلدة القديمة، رغم الانتشار المكثف لقوات الاحتلال، في مشهد جسّد التحدي والتمسك بالثوابت.
مسيرات في نابلس ورام الله.. "من رفح لجنين كل الشعب موحدين"
لم يقتصر الحراك على الإضراب، بل شهدت مدن عدة في الضفة، أبرزها نابلس ورام الله، مسيرات جماهيرية ووقفات تضامنية، حمل فيها المتظاهرون أعلام فلسطين، ورددوا هتافات مؤيدة للمقاومة ومنددة بالصمت العربي والدولي، منها: "من رفح لجنين كل الشعب موحدين"، و"سيري سيري للأمام انتفاضة شعبية"، في دعوة صريحة لتوسيع نطاق النضال الشعبي.
في نابلس، خرجت مسيرة بدعوة من فصائل منظمة التحرير واتحادات شعبية، بينما شهدت رام الله تظاهرة ضخمة بمشاركة قيادات سياسية، أكدت على دعم غزة ورفض تهجير أهلها، وسط إشادة بصمود الشهداء وعلى رأسهم القيادي محمد الضيف.
صوت الضفة لا يكفي.. نريد "كرة ثلج" من الغضب
الناشط السياسي المستقل عمر عساف قال إن هذه التحركات هي بداية جيدة لكنها غير كافية، وأضاف إن الأهم هو البناء عليها، وتحويلها إلى حراك يومي متواصل، قائلاً: "لا نريدها تنفيساً للغضب، بل رافعة للضغط على الأنظمة الرسمية لتتحرك في وجه الجريمة المستمرة ضد شعبنا".
وأكد على ضرورة حراك شعبي عالمي "يكون بمستوى ردع الاحتلال"، كاشفًا عن تحركات لتكرار مثل هذه الفعاليات في الأيام القادمة، واصفًا إياها بـ"كرة الثلج" التي ستكبر كلما تدحرجت.
إضراب طوعي.. ووعي جماهيري
الكاتب السياسي خالد معالي وصف الإضراب بأنه "طوعي"، وشكّل دليلاً على وحدة الحال بين الضفة وغزة، مؤكدًا أن الفلسطينيين باتوا يشعرون أن ما يجري في القطاع لن يتوقف عنده، بل سيطال الجميع إن نجح الاحتلال في فرض مخططاته.
وأضاف إن الإضراب، كأداة نضالية، تعود جذورها إلى ما قبل نكبة 1948، وقد أثبت نجاعته في إيصال الرسائل السياسية، منوهاً بأن ما رافقه من مسيرات واعتصامات يؤكد اتساع رقعة الرفض الشعبي للعدوان.
تضامن عالمي يتصاعد من عمّان إلى باريس
ما ميز هذا اليوم أنه لم يبق حبيس حدود فلسطين، بل تحول إلى حدث عالمي، حيث استجابت شعوب عربية وغربية لنداء الإضراب.
في الأردن ومصر والمغرب وتونس، شاركت نقابات وطلبة ومؤسسات تعليمية في الإضراب، ونظمت مسيرات حاشدة هتفت لفلسطين ونددت بالإبادة، في كفر الشيخ المصرية، علت هتافات: "لا للتهجير.. فلسطين عربية"، فيما شهدت جامعات تونس أضخم تحرك طلابي منذ سنوات.
في أوروبا، شهدت باريس مظاهرات ضخمة ضد الحرب وخطاب اليمين المتطرف، وخرج الآلاف في لندن مطالبين بوقف دعم "إسرائيل" بالسلاح، وفرض عقوبات عليها.
أما في الولايات المتحدة، فقد تظاهر عشرات الآلاف في واشنطن رفضاً لسياسات الرئيس دونالد ترامب، مطالبين بوقف المساعدات العسكرية لـ"إسرائيل"، بينما نظّم الكوريون الجنوبيون وقفات تضامنية، استغلالاً لقضية ترحيل طالبة بسبب تأييدها لفلسطين.
من استوكهولم إلى إسطنبول.. وجع غزة يوحّد الضمير العالمي
في السويد، حاكى نشطاء حقوقيون المجازر في غزة عبر مسرحيات صامتة ومجسمات تحاكي معاناة الأطفال، في استوكهولم ومالمو، بينما أغلقت المحال التجارية في إسطنبول التزاماً بالإضراب.
وفي موريتانيا، استجابت أكثر من 60 نقابة للإضراب، وشهدت المدن اعتصامات أمام السفارة الأمريكية، فيما خرجت دمشق بمظاهرة دعم لغزة وسوريا معاً.
قمع في الأردن.. الإضراب يربك السلطات
في مقابل الزخم الشعبي، لجأت بعض الأنظمة إلى التضييق، كما في الأردن، حيث اعتقلت السلطات ناشطين دعوا للإضراب ووجهت لهم تهم "تعكير صفو النظام العام" بموجب قانون الجرائم الإلكترونية، ورصدت لجنة الحريات انتهاكات بحق المشاركين والضاغطين على أصحاب المحال لعدم الالتزام بالإضراب.
نداء الغضب: "على لسان كل طفل ذبيح"
في ختام اليوم، جاء بيان لجنة المتابعة للقوى الوطنية في غزة ليؤكد أن هذا الإضراب العالمي ليس إلا البداية، وقالت إن "النداء خرج على لسان كل طفل ذبيح، وكل امرأة مكلومة، وكل شيخ مقهور"، داعية لاستنفار دائم في وجه حرب إبادة مدعومة أمريكياً، وسط صمت أممي.
ما جرى في هذا اليوم ليس مجرد إضراب، بل إعلان صريح أن الضمير العالمي ما زال حياً، فبينما تسعى آلة الحرب الإسرائيلية لطمس ملامح غزة، يتجلى من فلسطين إلى باريس، ومن تونس إلى واشنطن، ومن إسطنبول إلى كفر الشيخ، مشهد إنساني يقول: "لن نصمت... غزة ليست وحدها".
