الوقت - أحدث اعتقال أكرم إمام أوغلو، عمدة إسطنبول وأحد أبرز أعمدة المعارضة التركية، على يد النيابة العامة بتهم تتراوح بين الفساد المالي والارتباط بتنظيمات إرهابية، زلزالاً سياسياً هزّ أركان المشهد التركي بأكمله.
أفضى هذا الاعتقال إلى موجة احتجاجات عارمة اجتاحت المدن التركية كالطوفان، فقد تدفقت جموع غفيرة من المواطنين إلى شوارع إسطنبول وأنقرة وإزمير في الأيام الأخيرة، ناثرين صيحات سخطهم في الأرجاء رغم حظر التجمعات، من جانبها لجأت قوات الأمن إلى استخدام الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه لتفريق المحتشدين، ما أشعل فتيل مواجهات عنيفة، وارتفعت أصوات المتظاهرين في حشودهم الهادرة بهتافات مناوئة لأردوغان، واصفين إياه بـ"الطاغية المستبد".
وفي محاولة لاحتواء الموقف المتفجر، فرضت السلطات التركية حظراً تاماً على أي تجمع أو مسيرة في أنقرة وإزمير لخمسة أيام، غير أن المعارضين أكدوا مواصلة احتجاجاتهم حتى تُفك قيود إمام أوغلو.
وبالتزامن مع اعتقال إمام أوغلو، تم إبطال شهادته الدراسية وشهادات ثمانية وعشرين شخصاً آخر ممن نالوا مؤهلاتهم في الفترة ذاتها، ما أثار موجةً من القلق العارم وردود فعل صاخبة في أوساط المجتمع التركي، وتجدر الإشارة إلى أن الدستور التركي يشترط على كل من يروم الترشح لمنصب الرئاسة، أن يكون حائزاً على شهادة تعليم عالٍ.
ملف قضائي أم مناورة سياسية؟
بينما يترقب الشعب التركي بأنفاس محبوسة لحظةً فارقةً في مسار البلاد السياسي، تتصاعد التساؤلات حول الخفايا والنوايا المستترة وراء اعتقال إمام أوغلو وانعكاساتها على وطنٍ يئنّ تحت وطأة استقطاب حاد، بين سطوة رجب طيب أردوغان المديدة وتنامي قوة المعارضة.
ورغم إعلان النيابة التركية أمر اعتقال إمام أوغلو وتسعة وتسعين شخصاً آخرين بتهم "الفساد والرشوة وجرائم ذات صلة بالإرهاب"، يرى المحتجون في هذه الخطوة ليس مساراً قضائياً نزيهاً، بل "مؤامرة سياسية" تحيكها الحكومة لإقصاء منافسيها، و"انقلاباً صارخاً على روح الدستور" التركي وجوهره.
وقع اعتقال عمدة إسطنبول قبل أيام معدودة من تزكيته مرشحاً للرئاسة التركية، ولهذا السبب اعتبر حزب الشعب الجمهوري (CHP) الذي ينتمي إليه إمام أوغلو هذا الإجراء محاولةً مكشوفةً لتحييد خصم سياسي قبل المعترك الانتخابي المرتقب، ودعا إلى تنظيم احتجاجات سلمية.
كان حزب الشعب الجمهوري قد حدّد الثالث والعشرين من مارس موعداً لانتخاباته التمهيدية للرئاسة، حيث يتعين على قرابة مليون ونصف المليون عضو الإدلاء بأصواتهم لاختيار مرشح الرئاسة لانتخابات 2028، وكان أكرم إمام أوغلو يتربع على عرش الأوفر حظاً لمنازلة مرشح الحزب الحاكم.
وفي مسعى من أردوغان لتبديد الانطباع بأن الإجراء المتخذ ضد إمام أوغلو ذو خلفية سياسية، وصف الاحتجاجات بأنها "مسرحية هزلية تمثلها المعارضة"، مصرحاً بأن مشاکل الحزب المعارض لا تمثّل معضلات الوطن.
وشدد أردوغان على أن ثمة من يسعون لبثّ بذور الفوضى في الشوارع مستغلين قضية فساد، مؤكداً أن أنقرة لن ترضخ أبداً لـ"إرهاب الشوارع".
أثار اعتقال إمام أوغلو قلقاً بالغاً على الساحة الدولية، فقد نددت الدول الغربية ومنظمات حقوق الإنسان بهذا الإجراء، واعتبرته مؤشراً جلياً على انحدار تركيا نحو هاوية السلطوية، وباعتقال عمدة إسطنبول، تقف تركيا على حافة أزمة سياسية عميقة الجذور، وتشير ردود الفعل الداخلية والدولية، إلى أن هذا الإجراء قد تنجم عنه تداعيات وخيمة على مسيرة الديمقراطية، والاستقرار السياسي في ربوع البلاد.
لأشهر عديدة، وخاصةً في أعقاب سقوط دمشق في قبضة الجماعات الإرهابية، لاح في الأفق أن مجريات الأحداث الداخلية والخارجية تصبّ في مصلحة أردوغان، بيد أن اعتقال عمدة إسطنبول سيقوّض بشدة مساعي الحكومة لاكتساب الشعبية والمصداقية على الساحة الداخلية.
ويرى المراقبون أن "أحد المخاطر المحدقة بأردوغان هو أن الفترة المتبقية حتى موعد الانتخابات الرئاسية لا تزال مديدةً، أي إن هناك متسعاً من الوقت للمعارضة ومرشحها لاستثمار الاعتقالات وصنوف الضغط الأخرى سياسياً، وهذا سبب جوهري لدراسة اعتقال إمام أوغلو في سياق احتمال تقصير أمد رئاسة أردوغان، وإمكانية الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة".
لم يصدر حتى اللحظة أي بيان رسمي بشأن انتخابات رئاسية مبكرة، بيد أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة تلوح بإمكانية تحقق مثل هذا السيناريو، وبالنظر إلى أن أردوغان يقضي فترةً رئاسيةً ثانيةً ولا يسمح له الدستور بالترشح مجدداً، تشير بعض التفسيرات إلى أنه في حال قرر البرلمان إجراء انتخابات مبكرة، يمكنه الترشح للمرة الثالثة.
إذا أقدم البرلمان التركي على اتخاذ قرار بإجراء انتخابات مبكرة، ستتاح للرئيس فرصة الترشح للمرة الثالثة، ولم يصدر حتى الآن أي بيان حول احتمال إجراء انتخابات رئاسية قبل أوانها، غير أن خطوات الحكومة تعزز هذا الاحتمال، وقد يكون اعتقال عمدة إسطنبول، الذي يُعد أبرز منافس محتمل لأردوغان، جزءاً من حسابات الحزب الحاكم لضمان تجديد الولاء لزعيمه في انتخابات مبكرة محتملة.
عودة شبح الأزمة الاقتصادية في خضم دوامة الصراع السياسي
سيترك اعتقال أكرم إمام أوغلو وأزمة الاحتجاجات المتصاعدة في تركيا، بصمات عميقة على اقتصاد البلاد.
فعقب اعتقال عمدة تركيا، هوت قيمة الليرة مقابل الدولار الأمريكي إلى مستوى قياسي بلغ 42 ليرة، مسجّلةً أدنى قاع تاريخي للعملة، لتختتم تداولاتها في نهاية المطاف بانخفاض نسبته 2.6 بالمئة عند 37.665 ليرة، وإذا استمرت شعلة الاحتجاجات متقدةً، فقد تنحدر قيمة الليرة إلى مهاوٍ أعمق، ما سيشكّل تحدياً جسيماً للاقتصاد التركي المترنح.
في الوقت ذاته، انهار مؤشر الأسهم التركية بنسبة 9 بالمئة، مسجّلاً أكبر تراجع له منذ أربع سنوات، كما تهاوى المؤشر الرئيسي لبورصة إسطنبول (BIST 100) بنحو 7 بالمئة، ما يعكس نزوح المستثمرين من الأسواق التركية، وقد قدّر المستثمرون المحليون والأجانب مخاطر الاستثمار بأنها بالغة الارتفاع نظراً لحالة عدم الاستقرار السياسي، وسارع بعضهم إلى سحب رؤوس أموالهم.
يساور المستثمرين قلقٌ عميق إزاء تصاعد وتيرة التوترات السياسية وانعكاساتها على السياسات الاقتصادية للحكومة، وإذا استمرت الأزمة السياسية في التفاقم، فليس من المستبعد نزوح مليارات الدولارات من تركيا، فالاضطراب السياسي يقوّض ثقة المستثمرين الأجانب، والعديد من الشركات الدولية تترقب بحذر مسار هذه الأزمة، وقد تؤجل بعض مشاريع الاستثمار أو تلغيها بالكامل.
تعاني تركيا حالياً من معدلات تضخم جامحة، وقد يؤدي الاضطراب السياسي إلى تدهور الوضع أكثر، فتدهور قيمة الليرة يدفع أسعار السلع المستوردة إلى الارتفاع، ما يضاعف الضغط على معدل التضخم، كما قد تفضي الاضطرابات الداخلية إلى اختلالات في سلاسل التوريد، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وقد يؤدي انهيار قيمة العملة الوطنية وتلاشي ثقة المستثمرين إلى تضخم تكاليف المعيشة، وتفاقم الأعباء الاقتصادية على كاهل الشركات والأسر.
من زاوية أخرى، تتبوأ إسطنبول مكانةً مرموقةً كإحدى أبرز الوجهات السياحية في تركيا، التي تدر دخلاً سنوياً يناهز 50 مليار دولار، لذا فإن استشراء الاحتجاجات وتأجج التوترات الداخلية، قد يفضي إلى انحسار تدفق السياح، وبالتالي، سيلقي تقلص الإيرادات السياحية بظلاله القاتمة على الاقتصاد المحلي والوطني.
علاوةً على ذلك، مع استفحال الأزمة السياسية، قد تضطر الحكومة إلى تبني سياسات اقتصادية غير تقليدية، كرفع أسعار الفائدة أو إحكام قبضتها على العملة، مما قد تنجم عنه تداعيات وخيمة على الاقتصاد. وإذا استمرت هذه الأزمة في التمدد، فقد تغرق تركيا في أتون ركود اقتصادي أشدّ عمقاً.
آفاق المشهد السياسي التركي المتحول
مع استمرار موجات الاحتجاج والقمع الحكومي، يكتنف الغموض مستقبل تركيا السياسي والاقتصادي، يتوقف مصير البلاد الآن على براعة الحكومة في إدارة هذه الأزمة المستعرة، فإذا نجحت في تثبيت دعائم الاستقرار من خلال إصلاحات سياسية أو اقتصادية جذرية، فقد ينقشع غبار الأزمة، أما إذا استمرت في نهج القمع، فستجد تركيا نفسها أسيرة دوامةٍ من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي طويل الأمد، وسيغدو طريق التعافي في الأشهر المقبلة محفوفاً بالمصاعب والعقبات.
تنبأت صحيفة "رأي اليوم" في تحليل لآفاق المشهد السياسي التركي المتحول: "انطلقت شرارة هذه الأزمة بتداعيات اقتصادية، وقد تتمخض عنها عواقب سياسية بعيدة المدى، إذا برع إمام أوغلو في استنهاض همم الشعب التركي والتفافه حوله، فسيفلح في زعزعة أركان الاقتصاد التركي، وبما أن الاقتصاد يرزح تحت نير التضخم، فإن هذا سيدفع الحزب الحاكم للرضوخ أمام هذه العاصفة الهوجاء والتخلي عن قرار اعتقاله، وتشير استطلاعات الرأي إلى أنه قد يطيح بعرش أردوغان في الاستحقاق الرئاسي المقبل".
قد يفضي اعتقال إمام أوغلو، أحد أبرز منافسي أردوغان، إلى تأجيج نيران التوترات السياسية بين الحكومة والمعارضة، فمن ناحية، من المرجح أن يعتبر حزب الشعب الجمهوري والأحزاب المعارضة الأخرى، هذا الإجراء محاولةً مكشوفةً لإقصاء المنافسين من حلبة الصراع السياسي، وسيبادرون إلى تنظيم احتجاجات أوسع نطاقاً، وفي المقابل، قد تشدد حكومة أردوغان قبضتها على المعارضة، متذرعةً بملفات قانونية.
ونظراً للشعبية الجارفة التي يحظى بها إمام أوغلو، قد يشعل اعتقاله فتيل احتجاجات عارمة في المدن الكبرى، وخاصةً في إسطنبول وأنقرة.
قد يدفع اعتقال إمام أوغلو بمسار الأحداث في تركيا نحو فضاء سياسي أشدّ انغلاقاً، بيد أنه في الوقت نفسه، قد يؤجج نيران السخط الشعبي، ويفضي إلى تلاحم صفوف المعارضة وتوحيد كلمتها، على المدى القصير، قد تنجح الحكومة في تعزيز موقفها، لكن على المدى البعيد، قد ينجم عن هذا الإجراء تبعات وخيمة على استقرار تركيا السياسي والاقتصادي.
من زاوية أخرى، من المرجح أن يثير اعتقال أحد أبرز قامات المعارضة ردود فعل دولية حادة، وخاصةً من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اللذين يرصدان أوضاع الديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا، وقد يفضي ذلك إلى تصاعد الضغوط الاقتصادية على تركيا، وخاصةً في ظل الأزمة الاقتصادية المستعرة ومعدل التضخم الجامح وانهيار قيمة الليرة التركية، ما يضاعف من حدة السخط الشعبي المتنامي.