الوقت - لقد كان إطلاق سراح القس الأمريكي أندرو برونسون بناءً على حكم محكمة تركية في 12 أكتوبر 2018، حدثاً مهماً من الناحية الإعلامية لتبييض صفحة تركيا أمام أمريكا التي صبّت جام غضبها خلال الأشهر القليلة الماضية على أنقرة، فيما رأى البعض أن هذا الحدث يمثل التفافاً تركياً ومحاولة لكسر الجليد في العلاقة مع الأمريكي.
إن التوتر الواسع النطاق الذي حدث خلال الأشهر الماضية وموجة التهديدات والعقوبات التي رافقت ذلك بين واشنطن وأنقرة أفضت إلى نتيجة مفادها أن التحالف الاستراتيجي بين الطرفين وصل إلى طرق مسدود، ومن المرجح أن يتصاعد هذا التوتر في العصر الجديد.
وقد تم تعزيز هذه الفرضية بعد الاضطرابات في سوق العملات التركية وانخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار، ووفقاً للوضع الجديد فقد اعتبرت الحكومة والمواطنون الأتراك أن أمريكا هي السبب الرئيسي لعدم الاستقرار، ورأوا أن عقوبات دونالد ترامب لا تمثل سوى عداء للشعب التركي والحكومة، ونتيجة لذلك تم إنشاء حملات مختلفة على مستوى المجتمع لدعم الحكومة ومعارضة قرارات أمريكا، واعتبر رجب طيب أردوغان، والذي أكد أيضاً على استقلال القضاء في البلاد، أنه من غير الممكن الانحناء أمام واشنطن أو التنازل لها، وهدد الغرب بمراجعة استراتيجية بلاده تجاههم وقال إننا سنتوجّه شرقاً.
ومع ذلك وفي حدث غير متوقع في 12 أكتوبر تغير الأمر برمته في وقت واحد، وخلافاً لأول محاكمة ثقيلة لمحكمة إزمير التي وجهت تهماً لبرونسون بدعم حزب "ب ب ك"(العمال الكردستاني) وجماعات فتح الله غولن الإرهابية وتهديد الأمن القومي لتركيا، في ليلة وضحاها أزيلت كل هذه التهم عنه وتم إطلاق سراحه.
ونتيجة لذلك، يتساءل الآن ما إذا كان تحرير القس الأمريكي سيحلّ التوترات بين واشنطن وأنقرة؟ بعبارة أخرى، هل ينبغي اعتبار تراجع أردوغان عن مواقفه نهاية فترة مضطربة في العلاقات التركية الأمريكية، ومن خلال إطلاق سراح برونسون هل سندخل عهد الـ" ترميدور" (الانقلاب ضمن الثورة الفرنسية والذي يعبّر عن الردة الرجعية والإرهاب الأبيض الذي وقع بعد إعدام روبسبير في يوليو تموز 1794 وآخرين من الحركة الثورية) أم سنعود إلى عهد التحالفات الاستراتيجية للبلدين؟
انقسام عميق في استراتيجية السياسة الخارجية للبلدين
إن أهم أسباب الفشل في إعادة العلاقات بين تركيا وأمريكا يعود إلى الظروف الطبيعية في الماضي بعد التوترات الأخيرة على مدى الأشهر القليلة الماضية، ويمكن رؤية هذا الخلاف فيما يتعلق بالاختلافات الاستراتيجية في السياسة الخارجية لقادة البلدين فيما يتعلق بمختلف القضايا في منطقة غرب آسيا.
تركيا اليوم وعلى عكس العقود الأخيرة التي كانت فيها سياستها تتماشى إلى حدّ ما مع سياسة واشنطن في الشرق الأوسط، اليوم الأمر مختلف مع اختلاف وجهات النظر والاستراتيجيات تجاه قضايا المنطقة، مثل القضية الفلسطينية والأزمة السورية والعلاقة مع الأكراد السوريين والعراق وغيرها من التفاصيل الأخرى التي تجعل المسافة بين واشنطن وأنقرة بعيدة كل البعد عن آلية تفكير البلدين في هذه المرحلة، وهذا الوضع خلق معه توترات تفاقمت فيما بعد لدرجة أصبح من الصعب حلّها.
في الوقت الراهن هناك احتمال بأن تلغي واشنطن بعض العقوبات التي فرضتها على أنقرة، ولكن هذا لا يمكن أن يؤدي إلى امتثالها للقضايا الإقليمية، وخاصة فيما يتعلق بخطة ترامب المتمثلة في تصفية القضية الفلسطينية عبر اتفاق أطلق عليه "صفقة القرن".
الأمر الثاني ملف "أكراد سوريا" الذي لا تزال ترى فيهم تركيا تهديداً لأمنها القومي وتعمل على محاربتهم وإبعادهم عن حدودها، في مقابل ذلك تجد واشنطن فيهم حليفاً قوياً واستراتيجياً، ولذلك لن يكون حلّ هذه القضية بالأمر السهل، وخاصة في مرحلة ما بعد انتهاء الأزمة السورية التي وصلت لنهايتها بطبيعة الحال، لذلك قد يعود التوتر بين واشنطن وأنقرة في أي لحظة على خلفية هذا الموضوع.
هناك أيضاً الملف النووي الإيراني الذي يراه ترامب مهماً جداً بالنسبة له ويعمل على معاقبة كل دولة تستمر بالالتزام ببنود هذا الاتفاق وهذا بحد ذاته خلاف آخر يعكس عمق منظور أنقرة-واشنطن حول النظام الأمني - السياسي المستقبلي لمنطقة غرب آسيا.
إن هندسة النظام الأمني المستقبلي لمنطقة غرب آسيا وحقائقها الجيوسياسية لا تقدم بأي شكل توضيحاً لاستمرار العلاقة الاستراتيجية لتركيا وواشنطن، كما يتأثر بتغاير نظام الدولتين للبنية التحتية ذات القيمة المضافة كمكون أساسي في إطار السياسة الخارجية للدول، هذا العنصر هو جزء آخر من مواضع الاختلاف، والتي يمكن وصفها بأنها مؤثرة جداً في فجوة الهوية بين تركيا والغرب.
إن إضفاء الطابع المؤسسي على فجوة الهوية بين مواطني المجتمع التركي مع ثقافته وهويته الأخرى هو مستوى سيكون ليس فقط في الحاضر ولكن أيضاً في المستقبل، عقبة رئيسية أمام التحالف الاستراتيجي بين الجانبين.
في الواقع، على مدى السنوات القليلة الماضية، توصل المجتمع التركي إلى هذا الاستنتاج المهم، مع العودة إلى منتصف قيمته وهويته الإسلامية، وهو أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون القيم العلمانية والليبرالية في الغرب متماشية مع قيمهم الاجتماعية والثقافية.