الوقت- في كل زاوية من زوايا غزة، وفي كل شارع من شوارع فلسطين، ينبض قلب لا يعرف إلا العزة، وتشتعل روح لا تقبل الذل، أمام واحدة من أعتى آلات الحرب في العالم، تقف المقاومة الفلسطينية بشموخٍ منقطع النظير، تُسجِّل سطورًا من البطولة في كتاب التاريخ، وتُسطِّر بدماء أبنائها أبلغ رسائل الكرامة، ليست هذه المرة الأولى التي يتوهم فيها الاحتلال أنه قادر على كسر إرادة غزة، لكن في كل مرة يُفاجأ بأن جذوة الصمود فيها لا تنطفئ، وأن فتيانها وشيوخها ونساءها جميعًا هم جبهة واحدة لا تلين.
رغم الحصار والدمار والمجازر، ورغم الغارات الليلية وصواريخ الدبابات، فإن شعب غزة يُثبت يومًا بعد يوم أن الكرامة أثمن من الحياة تحت الاحتلال، وأن الحرية لا تُنتزع إلا من بين أنياب الغزاة، المقاومة الفلسطينية لم تكن مجرد ردّ فعل، بل عقيدة وطنية وإيماناً عميقاً بحقّ الإنسان في الدفاع عن أرضه، في وجه كيان قائم على الاغتصاب والعدوان، في كل معركة، تخرج غزة لتُلقِّن الاحتلال درسًا جديدًا: أن الحديد لا يهزم الروح، وأن من تربّى على التضحية لا يخاف من الموت، نحن اليوم أمام فصل جديد من فصول النضال، فيه تتكشّف هشاشة العدو أمام صبر الأبطال.
الهجمات الأخيرة في غزة... توازن الرعب ينقلب
خلال الأسابيع الأخيرة، شهدت جبهات شمال قطاع غزة اشتعالًا متصاعدًا في وتيرة المواجهة، حيث أعلنت وسائل إعلام عبرية مقتل ثلاثة جنود صهاينة بعد استهداف دبابة "ميركافا" بصاروخ مضاد للدروع أطلقته فصائل المقاومة، هذه العملية النوعية ليست حدثًا عابرًا، بل تُعدّ مؤشرًا واضحًا على تطور القدرات القتالية لدى المقاومة، وإثباتًا على أن مسرح العمليات لم يعد آمنًا حتى داخل العربات المدرعة التي طالما اعتمد عليها الاحتلال في معاركه البرية.
المصادر الإسرائيلية حاولت التخفيف من وطأة الخسائر، لكنها لم تستطع إخفاء حالة الارتباك التي ضربت صفوف جيش الاحتلال بعد أن قُتل الجنود الثلاثة في وضح النهار وفي عمق ميدان القتال، ما يدل على اختراق أمني وتكتيكي للمقاومة.
يُضاف إلى ذلك حادثة جباليا التي أسفرت عن مقتل عدد آخر من الجنود الإسرائيليين، وسط قصفٍ متبادل وغارات كثيفة شنتها طائرات الاحتلال، في مشهد يُظهِر أن المقاومة باتت تفرض قواعد اشتباك جديدة على الأرض، وفي المقابل، يواصل الاحتلال سياسة التصعيد العشوائي، مستهدفًا الأحياء السكنية في الشجاعية والتفاح وخان يونس، لكنّ كل هذا لم يفتّ في عضد المقاتلين، بل زاد من عزيمتهم على المواجهة.
الرد الإسرائيلي... خطاب المهزوم رغم آلة الحرب
لم يكن رد فعل قادة الاحتلال على خسائرهم في غزة متماشيًا مع الصورة التي يحاولون تصديرها عن "الهيبة" العسكرية، بل جاء مشحونًا بالحزن والاعتراف الصريح بعُمق الضربة، وصف رئيس وزراء الكيان، بنيامين نتنياهو، ليلة مقتل الجنود الثلاثة بأنها "ليلة صعبة"، قائلاً إن "كل الإسرائيليين في حالة حزن"، هذا التصريح بحد ذاته يُعدّ مؤشرًا على حجم الوجع الداخلي الذي تُسببه عمليات المقاومة لجيش الاحتلال، الذي لم يعتد خسائر متتالية بهذا الشكل.
نتنياهو لم يكتفِ بذلك، بل حاول إضفاء طابع تضحية على القتلى بقوله إنهم "ضحّوا بحياتهم من أجل أمن إسرائيل وهزيمة حماس"، وكأنّه يُبرر للداخل الإسرائيلي جدوى استمرار هذه الحرب، رغم تصاعد الانتقادات ضد حكومته، أما وزير الحرب، إسرائيل كاتس، فاعترف بخسارة "أفضل الأبناء"، في لغة تحمل نغمة انكسار نادرة في خطابات قادة الاحتلال.
هذا الاعتراف العلني لا يكشف فقط أثر الضربات على الصعيد العسكري، بل يشي بحالة من الضغط السياسي والإعلامي الداخلي، دفعت قادة الاحتلال إلى محاولة امتصاص غضب الجمهور عبر التصريحات العاطفي، لكنّ ما غاب عنهم هو أن هذه الحرب لا تُدار بالكلمات، بل تُحسم على الأرض، حيث تكتب المقاومة المعادلة الجديدة بلغة النار والعقيدة.
المقاومة كعقيدة... لا تُهزم بالسلاح
ما يميز المقاومة الفلسطينية اليوم ليس فقط تطورها العسكري أو قدرتها على تنفيذ عمليات نوعية، بل رسوخها كـ"عقيدة وطنية" في وجدان الفلسطينيين، ولا سيما في غزة، فحين تعجز الآلة الحربية الإسرائيلية، بكل ما تملكه من تكنولوجيا وتجسس وتسليح، عن منع سقوط جنودها داخل دباباتهم، فهذا يعني أن هناك إرادة بشرية خارقة تتجاوز المعايير العسكرية التقليدية، المقاومة ليست مجموعة مقاتلين فقط، بل منظومة شعبية متكاملة، تبدأ من عائلة الشهيد وتصل إلى الطفل الذي يكبر على ثقافة المواجهة.
في المقابل، الاحتلال يتعامل مع المعركة بمنطق الأرقام: كم قُتل؟ كم صاروخ أُطلق؟ لكنه يغفل أن ما يصنع الفرق الحقيقي هو الإيمان بالحق والارتباط العضوي بين الأرض والهوية، شباب غزة اليوم لا يقاتلون فقط من أجل تحرير أرضهم، بل لأنهم لا يرون لأنفسهم مستقبلًا تحت الذل، ولا يقبلون بوطن ناقص أو حياة بلا سيادة، وهذه العقيدة هي التي تُربك حسابات الاحتلال وتفشل استراتيجياته، إن المقاومة التي تُصمّم أنفاقها تحت الأرض وتزرع كمائنها في كل زاوية، وتتحمل سنوات الحصار والجوع، ليست مجرد حالة طارئة، بل ظاهرة تاريخية تؤكد أن الشعوب المحتلة يمكن أن تُغيّر موازين القوة إذا ما تمسكت بقضيتها ولم تُفرّط بكرامتها.
ختاماً، ما نشهده اليوم في غزة هو أكثر من مجرد مواجهة عسكرية؛ إنه اختبار وجودي لإرادتين: إرادة الاحتلال القائمة على البطش، وإرادة الشعب الفلسطيني القائمة على الكرامة، ومع كل شهيد يرتقي، ومع كل دبابة تُدمر، تُثبت غزة أنها رغم الجراح قادرة على فرض معادلات جديدة، تُربك الداخل الإسرائيلي، وتُعيد تعريف موازين الردع، لقد تحوّلت غزة من مدينة محاصرة إلى عقدة عسكرية وأمنية تؤرق قادة الاحتلال ليل نهار، لأنهم لم يعودوا يواجهون مقاتلين فقط، بل يواجهون فكرة لا تموت، ووجدانًا شعبيًا لا يُقهر.
الانتصار في غزة لا يُقاس بعدد الجنود القتلى فقط، بل بقدرة المقاومة على الاستمرار رغم كل محاولات الإبادة الممنهجة، لقد فشلت "إسرائيل" في فرض الاستسلام، تمامًا كما فشلت في تحطيم الروح الفلسطينية، التي تُقاتل بدمها، وتُربّي أبناءها على أن الوطن لا يُحرر من المؤتمرات، بل من خنادق الاشتباك، تبقى الحقيقة الكبرى أن من يمتلك إرادة القتال لا يُهزم، وأن الاحتلال، مهما بلغت قوته، سيظل غريبًا على هذه الأرض، مرفوضًا من شعبها، محاصرًا بكرامتهم، غزة اليوم ليست فقط عنوانًا للصمود، بل أيقونة لمستقبل تتحطم فيه جدران الظلم، وتُشرق فيه شمس الحرية من بين أنقاض الركام.