الوقت- في الوقت الذي يواجه فيه العالم أزمات سياسية واقتصادية متفرقة، هناك مأساة إنسانية تتصاعد بصمت قاتل في قطاع غزة، حيث يعيش أكثر من 2.2 مليون إنسان تحت وطأة حصار خانق طال أمده، وتفاقمت تداعياته منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023.
ومع استمرار العدوان وتوقف الإمدادات الحيوية، حذرت مصادر طبية ودولية من قرب انهيار شامل للقطاع الصحي في غزة نتيجة نفاد الوقود، ما ينذر بكارثة صحية وإنسانية غير مسبوقة.
انهيار المستشفيات: المرضى يصارعون الموت
أطلقت وزارة الصحة في غزة تحذيرًا صارخًا عن خطورة الوضع الصحي في القطاع، مؤكدة أن عدداً كبيراً من المستشفيات والمراكز الطبية المتبقية توقفت عن العمل أو خفضت قدرتها التشغيلية بشكل حاد بسبب نقص الوقود. وأشارت الوزارة إلى أن الأقسام الحيوية مثل العناية المركزة، وحضانات الأطفال الخدج، وغرف العمليات، باتت مهددة بالتوقف الكامل نتيجة انقطاع التيار الكهربائي وتعطل المولدات بسبب نفاد الديزل.
وأكدت الوزارة أن المستشفيات تواجه ضغطاً هائلاً في ظل تدفق أعداد كبيرة من المصابين جراء القصف الإسرائيلي المكثف، في حين لا توجد وسائل كافية للتعامل مع هذا الكم من الضحايا. وقد اضطرت بعض المستشفيات إلى وقف بعض الخدمات الطبية الأساسية وتفريغ أقسام كاملة من المرضى الذين يحتاجون إلى رعاية مستمرة.
في هذا السياق، أشار المتحدث باسم وزارة الصحة إلى أن ما تبقى من الوقود لا يكفي لتشغيل المستشفيات سوى لساعات قليلة في اليوم، وأن الاستنزاف المتواصل للوقود دون تعويض يجعل من استمرار تقديم الخدمات الصحية شبه مستحيل.
موقف الأمم المتحدة: 7500 لتر لا تكفي
استيڤان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، أوضح أن المنظمة الأممية لم يُسمح لها إلا بإدخال 7500 لتر فقط من الوقود إلى قطاع غزة مؤخرًا، وهو ما لا يكفي لتشغيل مستشفيات القطاع ليوم واحد. هذا الرقم الصادم يكشف مدى الإهمال المتعمد من قبل الاحتلال الإسرائيلي، الذي يستمر في فرض القيود المشددة على إدخال الوقود والمساعدات الإنسانية للمدنيين.
وأكد دوجاريك أن الأمم المتحدة لا تستطيع مواصلة عملياتها الإنسانية في غزة دون تدفق منتظم وكافٍ للوقود، محذرًا من أن القطاعات الحيوية كالصحة، والمياه، والنفايات الصلبة، على وشك الانهيار الكامل.
الدفاع المدني خارج الخدمة
من جانب آخر، تعاني فرق الدفاع المدني في غزة من عجز كامل في تقديم خدمات الإنقاذ نتيجة توقف جميع سيارات الإسعاف والإطفاء عن العمل باستثناء مركبة واحدة، بسبب نفاد الوقود وعدم توفر قطع الغيار.
وصرّح المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة أن الفرق تلجأ إلى استخدام سيارات مدنية في عمليات الإنقاذ، وهو أمر غير عملي وغير فعال، خاصة في ظل القصف الكثيف ووجود عالقين تحت الأنقاض في مختلف أنحاء القطاع.
كما أشار إلى أن عناصر الدفاع المدني يعملون بأيديهم في كثير من المواقع بسبب غياب المعدات، وهو ما يُعرضهم للخطر ويؤخر عمليات الإنقاذ بشكل كبير. وأضاف أن غياب الوقود والإمكانيات يحول دون التعامل مع الحرائق التي تندلع نتيجة القصف، أو انتشال الشهداء والمصابين من تحت الركام، مما يزيد من حصيلة الضحايا.
أزمة المياه: العطش ينهش غزة
أما فيما يخص قطاع المياه، فقد أعلنت مصادر في مصلحة المياه في غزة أن نحو 70% من الآبار خرجت عن الخدمة، نتيجة لعدم توفر الوقود اللازم لتشغيل المضخات والمنشآت المتعلقة بتوزيع المياه.
وأكدت تلك المصادر أن الاحتلال الإسرائيلي لم يسمح منذ مارس الماضي بإدخال أي كمية من الوقود المخصص لقطاع المياه، ما اضطر الجهات المختصة في غزة إلى استخدام ما تبقى من مخزون الوقود في مكاتب وكالة الأمم المتحدة في الجنوب.
إلا أن هذا المخزون شارف على النفاد، ولا يُتوقع أن يصمد لأكثر من أسبوع، ما يعني أن مئات الآلاف من العائلات ستُحرم من المياه خلال أيام قليلة، في ظل ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف.
الأمراض تتفشى في ظل غياب النظافة
إلى جانب أزمة المياه، تلوح في الأفق أزمة صحية جديدة ناتجة عن تراكم النفايات وانهيار خدمات الصرف الصحي. فقد توقفت محطات تحلية المياه بسبب انقطاع الكهرباء، كما تراكمت أطنان من النفايات في محيط مخيمات النازحين، الأمر الذي يهدد بانتشار أوبئة وأمراض خطيرة بين السكان، خاصة الأطفال والمسنين.
وأوضح الدكتور مروان الهمص، مدير المستشفيات الميدانية في غزة، أن القطاع الصحي لم يعد قادرًا على التعامل مع تفشي الأمراض، خصوصاً مع وجود مئات الآلاف من النازحين الذين يفتقرون إلى أبسط وسائل النظافة الشخصية. وأكد أن 95% من سكان غزة يفتقرون للماء الكافي لاستخدامه في الشرب أو الغسل أو الاستحمام، مما يخلق بيئة خصبة لانتشار الأمراض الجلدية والتنفسية والمعدية.
في ظل هذا الوضع الكارثي، تتعالى الأصوات المحلية والدولية للمطالبة بوقف الحرب ورفع الحصار فورًا. وقال الدكتور الهمص إن الحل الوحيد لوقف هذه الكارثة الإنسانية هو إنهاء العدوان الإسرائيلي فورًا، وفتح المعابر بشكل دائم لإدخال الوقود والمياه والمستلزمات الطبية.
كما دعت منظمات حقوق الإنسان، ومن بينها "أطباء بلا حدود" و"الصليب الأحمر الدولي"، المجتمع الدولي إلى التدخل العاجل والضغط على إسرائيل للسماح بمرور المساعدات الإنسانية دون شروط.
ازدواجية المعايير الدولية
ورغم حجم المأساة، لا تزال ردود الفعل الدولية دون الحد الأدنى المطلوب. إذ يكتفي العديد من المسؤولين الغربيين بالتعبير عن "القلق" دون اتخاذ خطوات عملية لوقف الانتهاكات. وهذا الصمت الدولي يعكس ازدواجية واضحة في المعايير، حيث يتم التغاضي عن حصار غزة وحرمان سكانها من الوقود والماء والغذاء، في حين يتم التحرك الفوري عندما تتعرض مناطق أخرى من العالم لأزمات مشابهة.
إن أزمة الوقود في غزة ليست مجرد مسألة لوجستية أو تقنية، بل هي جريمة إنسانية مكتملة الأركان تُرتكب على مرأى ومسمع من العالم. إن ترك أكثر من مليوني إنسان يواجهون الموت جوعاً أو عطشاً أو مرضاً أو تحت الأنقاض، دون أي تدخل فاعل، يشكّل وصمة عار على جبين المجتمع الدولي.
المطلوب الآن ليس فقط إصدار بيانات شجب واستنكار، بل اتخاذ خطوات عملية وفورية لضمان تدفق الوقود والمساعدات إلى غزة، ووقف آلة الحرب والدمار التي تطحن البشر والحجر. فالزمن ينفد، وكل يوم تأخير يعني مزيداً من الأرواح التي تُزهق، ومزيداً من الأطفال الذين يُحرمون من حقهم في الحياة.