الوقت- يعيش الكيان الصهيوني اليوم واحدة من أكثر مراحله التاريخية اضطراباً وتفككاً، حيث لم تعد التحديات التي يواجهها خارجية فقط، بل باتت الانقسامات والتناقضات العميقة تنخر عظام مؤسساته من الداخل، فالحرب التي ظنّ قادته أنها ستكون "عملية حاسمة" في غزة، تحولت إلى مستنقع دموي واستنزافي لا نهاية له، ما أفضى إلى تصدع داخلي غير مسبوق بين أركان القيادة السياسية والعسكرية، وفيما تتصاعد الأصوات المطالبة بمواصلة القتال مهما كان الثمن، ينبري كبار المسؤولين العسكريين لتحذير قاطع من مغبة استمرار الحرب، ويدقون ناقوس الخطر حول مستقبل جيش بات ينزف، ويتخبط في أرض معادية لا يستطيع إخضاعها رغم كل ما يملك من قوة، تتداخل الحسابات السياسية والشخصية لقادة صهاينة تائهين، فيما يبحث الجيش عن مخرج يحفظ ماء وجهه، ويمنع انزلاقه نحو هزيمة معلنة.
في هذا المقال، نسلط الضوء على أبرز مظاهر التفكك والانهيار داخل كيان الاحتلال، ونكشف حقيقة أزمته المتصاعدة في إدارة حرب غزة، وخصوصًا من زاوية الإرباك العسكري والتحديات البنيوية التي تهدد "جيشه الذي لا يُقهر".
انقسام غير مسبوق داخل المؤسسة الصهيونية.. معركة القرار المفقود
لم يشهد الكيان الصهيوني منذ تأسيسه انقساماً بهذا العمق في مراكز صنع القرار كما هو الحال اليوم في ظل حرب غزة، فبينما تتساقط القنابل على القطاع، تتساقط معها أوراق التفاهم داخل الحكومة الإسرائيلية، التي تحولت إلى ساحة صراع بين جناحين متناحرين، الأول يمثله وزراء متشددون أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، الذين يدفعون نحو تصعيد عسكري شامل دون اعتبار للكلفة البشرية أو السياسية، حتى لو أدى ذلك إلى مقتل الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة.
وفي المقابل، يقف الجناح الآخر بقيادة شخصيات أمنية وعسكرية مرموقة، مثل رئيس الأركان إيال زامير، ورئيس الموساد ديدي برنياع، مطالبين بإعطاء فرصة للمفاوضات، محذرين من أن استمرار العمليات قد يُدخل الجيش في حرب استنزاف طويلة تهدد قدرته القتالية وتماسكه الداخلي، هذا التصدع لم يعد مجرد خلاف في وجهات النظر، بل بات يعكس فقداناً تاماً للبوصلة الاستراتيجية داخل كيان هش، تتنازعه الأهواء والأطماع، وتنهشه التناقضات من أعلى هرمه السياسي إلى قلب مؤسسته العسكرية، ما يجعل استمراره على ما هو عليه أمراً محفوفاً بالانهيار.
جيش الاحتلال في ورطة.. بين فخ الغرق الكامل وحرب الأنفاق الطويلة
رغم التفوق العسكري التقني واللوجستي الذي طالما تغنى به قادة الاحتلال، إلا أن الواقع الميداني في غزة أظهر هشاشة غير مسبوقة في قدرات الجيش الإسرائيلي، فبعد شهور من الحرب، اعترف رئيس الأركان بنفسه أن الجيش يتعرض لاستنزاف مستمر في الأرواح والعتاد، دون تحقيق أي من الأهداف المعلنة، بل إن الجيش، الذي لطالما عُرف بخططه السريعة والحاسمة، وجد نفسه محاصراً في حرب أنفاق معقّدة، لم تنفع فيها لا الطائرات ولا الدبابات.
خيار احتلال كامل لقطاع غزة رُفض داخلياً، لأنه ببساطة يعني انتحاراً استراتيجياً؛ فحسب تقديرات القيادة العسكرية، السيطرة على كل الأنفاق قد تتطلب سنوات طويلة وتكلفة بشرية باهظة، أما خيار الانسحاب، فسيُفسَّر كإخفاق استراتيجي لا يغتفر، وبين هذا وذاك، يقف الجيش مرتبكاً، لا يعرف كيف يواصل المعركة ولا كيف يخرج منها، هذه الورطة العسكرية لم تعد فقط شأناً داخلياً، بل أصبحت عبئاً ثقيلاً على صورة "الجيش الذي لا يُقهر"، والذي يبدو اليوم كمن يقاتل أشباحاً في متاهة لا نهاية لها، وسط رفض شعبي متصاعد ومأزق سياسي لا يقل تعقيداً.
المقاومة تفوّقت.. تكتيكات حماس تكسر أنف الجنرالات
التحولات الكبرى في مسار الحرب على غزة لم تأتِ من قرارات سياسية أو ضغط دولي، بل من صلابة المقاومة الفلسطينية، وذكائها في إدارة المعركة على الأرض، حركة حماس وبقية فصائل المقاومة فرضت على جيش الاحتلال نمطًا جديدًا من الحروب: حرب استنزاف ذكية، غير تقليدية، تعتمد على الكمائن، والأنفاق، والضربات الخاطفة، واستخدام البيئة الحضرية كسلاح فعال، هذه التكتيكات قلبت موازين المعركة، وأربكت قادة الجيش الإسرائيلي الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن فرض سيطرة حقيقية على الأرض، رغم التقدم الظاهري في بعض المناطق.
الاعترافات التي أدلى بها المسؤولون العسكريون، بمن فيهم إيال زامير، بشأن صعوبة استمرار الوجود الطويل في غزة، تؤكد أن المقاومة نجحت في استدراج جيش الاحتلال إلى ساحة معركة لا يتقن قواعدها، بل إن الخوف الحقيقي لدى القادة العسكريين اليوم هو تحول المعركة إلى حرب عصابات طويلة، تجعل من كل خطوة إسرائيلية مكلفة ومحفوفة بالمفاجآت، لقد تحولت المقاومة من مجرد رد فعل، إلى فاعل ميداني يملي شروط المعركة، ويُظهر هشاشة "أسطورة الردع" الإسرائيلية التي تآكلت تحت وقع ضربات المقاومين.
نتنياهو في مأزق.. عندما تتصارع السياسة مع الميدان
في قلب هذا المشهد المتوتر، يقف بنيامين نتنياهو عاجزًا عن اتخاذ قرار حاسم، رئيس حكومة الاحتلال، الذي لطالما برع في المناورة، بات اليوم محاصراً بين الضغوط المتضاربة: من جهة يطالبه وزراؤه اليمينيون بالمضي قدماً في الحرب حتى النهاية، ومن جهة أخرى تحذره المؤسسة الأمنية من العواقب الوخيمة لمواصلة القتال، هذا التردد لا يعكس فقط مأزقاً سياسياً، بل يفضح هشاشة القيادة الصهيونية التي باتت تدير أكبر معاركها من موقع الدفاع والتخبط. المحادثات السرية بين نتنياهو والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشأن تجهيز هجوم واسع، تعكس حالة الذعر السياسي التي تحكم قرارات القيادة الإسرائيلية، ومحاولتها البحث عن غطاء خارجي للهروب من مأزق داخلي.
في الوقت نفسه، عدم تقديم نتنياهو لموقف واضح بشأن المفاوضات أو العمليات العسكرية يؤكد أن الرجل يخشى دفع الثمن السياسي في الداخل، سواء بالموافقة على وقف القتال، أو بمواصلة حرب باتت مكلفة على كل المستويات، وفي خضم هذا الصراع، أصبحت السياسة الإسرائيلية ساحة لحسابات شخصية لا تخدم سوى استمرار المأساة، وتزيد من تعقيد الموقف الميداني، وتعمق جراح الجيش الذي يُترك وحده في الميدان ليواجه مصيراً مجهولاً.
في النهاية، تعيش "إسرائيل" اليوم أسوأ لحظاتها منذ نشأتها، ليس فقط بسبب تعثر مشروعها العسكري في غزة، بل نتيجة التآكل الداخلي الذي يضرب مؤسساتها من جذورها، الجيش، الذي كان لسنوات طويلة رمز الردع والهيبة، يبدو اليوم كياناً متعباً، مُربكاً، يفتقد الوضوح والهدف، ويخشى الاستمرار بقدر ما يخشى التراجع، القيادات السياسية تتصارع على مستقبل مجهول، والشارع الإسرائيلي يفقد ثقته بقدرة حكومته على إنهاء المعركة أو تحقيق إنجاز يُذكر. المقاومة من جهتها صامدة، بل متفوقة، وقد نجحت في فرض معادلة جديدة تُجبر المحتل على مراجعة كل حساباته، الحرب التي بدأت بتهديدات وضجيج، انقلبت إلى مرآة تعكس هشاشة الكيان من الداخل، وعجزه عن حسم معركة رغم تفوقه العسكري الظاهر، لقد تحولت غزة من ساحة عمليات إلى مختبر يُختبر فيه تماسك الكيان الصهيوني، ويبدو أن هذا المختبر يُنتج حقائق جديدة: "إسرائيل" لم تعد كما كانت، وجيشها لم يعد كما يدّعي، والمستقبل القريب ربما يحمل للمنطقة تغيرات كبرى، قد تبدأ من داخل "الكيان الذي يتداعى بصمت".