الوقت – في الوقت الذي يعيش فيه كيان الاحتلال واحدة من أعقد أزماته الاقتصادية منذ تأسيسه على أرض فلسطين العربية، ومع انهيار مؤشرات الثقة بالاقتصاد وتراجع التصنيف الائتماني، يواصل رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو التلويح بخيار احتلال كامل لقطاع غزة. هذا الخيار، الذي تحذر منه أوساط عسكرية ومالية وإعلامية إسرائيلية، لا يهدد فقط استقرار الموازنة العامة، بل قد يدفع الاقتصاد إلى حافة الانهيار، في ظل الحرب المستمرة، وإغلاق الموانئ البحرية بفعل الحصار اليمني، وتآكل الثقة الدولية.
تكلفة سنوية فلكية: 49 مليار دولار
حسب صحيفة يديعوت أحرونوت، فإن إعادة احتلال القطاع ستفرض على الخزينة الإسرائيلية أعباءً سنوية تتراوح بين 120 و180 مليار شيكل (نحو 32 إلى 49 مليار دولار) — أي ما يعادل أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي للكيان. هذه التكلفة تشمل:
-تجنيد 250 ألف جندي احتياط واستهلاك ذخيرة بقيمة 350 مليون شيكل يوميًا (10–11 مليار شيكل شهريًا).
-إدارة القطاع بعد السيطرة عليه، بكلفة تتراوح بين 10 و15 مليار شيكل شهريًا لتأمين الغذاء والماء والدواء والكهرباء لسكانه.
-إنشاء مخيمات لجوء وتمويل مساعدات إنسانية إجبارية تحت ضغط المجتمع الدولي.
وزارة المالية الإسرائيلية نفسها حذرت من أن هذه الخطوة سترفع العجز المالي إلى نحو 7% هذا العام، مع احتمال خفض إضافي للتصنيف الائتماني، وهو ما سيضاعف كلفة الاقتراض، ويقوض الاستثمارات.
التقشف والضرائب.. ثمن الاحتلال
يشير المراسل الاقتصادي غاد ليؤور إلى أن تمويل هذا العبء يتطلب تقليصات واسعة في التعليم والصحة والرفاه، وفرض ضرائب إضافية على المواطنين، إلى جانب تمديد تجميد خفض معدلات الضرائب. هذا يعني أن المواطن الإسرائيلي العادي سيدفع مباشرة من جيبه ثمن المغامرة العسكرية.
بل إن العام المقبل قد يبدأ من دون موازنة مُعتمدة، لتدار الحكومة بموجب “ميزانية استمرارية” تقلص الاستثمارات العامة وتعيق النمو الاقتصادي.
مقامرة على طريقة العراق
وصفت صحيفة كالكاليست الاقتصادية احتلال غزة بأنه "المقامرة الأعلى تكلفة في تاريخ إسرائيل"، مشبهةً السيناريو المحتمل بتورط الولايات المتحدة في العراق بعد 2003، حيث وجدت واشنطن نفسها مسؤولة عن إدارة حياة ملايين المدنيين في بيئة عدائية، وسط استنزاف مالي وعسكري طويل الأمد.
التقديرات العسكرية تشير إلى أن إدارة غزة ستتطلب 3 إلى 4 فرق عسكرية ميدانية بشكل دائم، وتأمين شبكة مواصلات وتعزيز البنية التحتية الأمنية. لكن الكلفة المالية ليست سوى نصف القصة؛ النصف الآخر هو المستنقع الأمني والسياسي الذي قد تغرق فيه إسرائيل.
مخاطر أمنية واستراتيجية
مصادر أمنية إسرائيلية نقلت عنها كالكاليست أكدت أن غزة ليست جنين أو نابلس، بل ساحة حرب مستمرة، مليئة بالأنفاق والبنية التحتية القتالية المعقدة. الجيش الإسرائيلي يعاني أصلاً من نقص في القوى البشرية، وتراجع المعنويات في صفوف الاحتياط، وازدياد حالات الرفض للخدمة.
أما سياسيًا، فإن احتلال القطاع سيؤدي إلى تآكل إضافي في التأييد الدولي لإسرائيل، في ظل التغطية الإعلامية المكثفة للجرائم ضد المدنيين، وفتح الباب أمام تحقيقات في المحكمة الجنائية الدولية حول جرائم الحرب.
الحصار اليمني وإغلاق الموانئ: ضربة مضاعفة
لا يمكن النظر إلى التكاليف بمعزل عن الظروف الإقليمية. فإغلاق الموانئ الإسرائيلية أو تعطيلها بفعل الهجمات اليمنية على السفن المرتبطة بالكيان أدى إلى شل حركة التجارة البحرية، ما يفاقم الأزمة الاقتصادية.
معظم الصادرات والواردات الإسرائيلية تعتمد على الموانئ البحرية، وأي إغلاق طويل الأمد يهدد قطاعات كاملة مثل الصناعة والزراعة والتكنولوجيا. في ظل هذا الوضع، فإن الدخول في التزام مالي وعسكري ضخم في غزة يبدو أقرب إلى انتحار اقتصادي.
غياب استراتيجية الخروج
أحد أبرز الانتقادات التي أوردتها كالكاليست يتعلق بغياب ما يسمى "استراتيجية الخروج". حتى لو نجح الاحتلال في دخول غزة، لا توجد خطة واضحة لما بعد ذلك:
هل ستبقى القوات الإسرائيلية إلى أجل غير مسمى؟
من سيدير شؤون السكان؟
هل سيتدخل المجتمع الدولي في الإدارة؟
هذه الأسئلة لا تجد جوابًا مقنعًا حتى داخل الحكومة، وهو ما يرفع احتمالية التورط في حرب استنزاف طويلة الأمد.
الانقسام الداخلي
داخل المجلس الوزاري المصغر (الكابينت) الإسرائيلي، هناك انقسام حاد بين مؤيدين للاجتياح الكامل ومعارضين يرون أنه سيحول غزة إلى “فيتنام إسرائيلية”.
وزارة المالية والجيش يعارضان الخطة، لكن الصوت السياسي لليمين المتطرف هو الأعلى، وهو ما يجعل القرار رهينة لأجندات أيديولوجية أكثر من كونه مبنيًا على حسابات استراتيجية.
السيناريو الكارثي
إذا مضت حكومة الاحتلال الإسرائيلي في خيار احتلال غزة، فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا يتضمن:
-نزيف مالي مستمر يستهلك الميزانية ويعطل الاستثمار الداخلي والخارجي.
-استنزاف عسكري مع خسائر بشرية متزايدة وانخفاض جاهزية الجيش لجبهات أخرى.
-عزلة سياسية دولية وتزايد الضغوط القانونية في المحاكم الدولية.
-اضطرابات داخلية نتيجة الإجراءات التقشفية وتراجع الخدمات العامة.
-تفاقم المخاطر الإقليمية مع استمرار الهجمات على الموانئ الإسرائيلية، ما يهدد شريان التجارة الرئيسي.
ختام القول: مقامرة بحجم الانتحار
إن محاولة احتلال غزة ليست مجرد مقامرة عسكرية، بل مقامرة شاملة تهدد أسس الاقتصاد الإسرائيلي واستقراره السياسي والاجتماعي.
في ظل الأوضاع الراهنة، حيث يعاني الكيان من تراجع النمو، وارتفاع العجز، وضغوط أمنية إقليمية، فإن الدخول في التزام مالي ضخم وغير مضمون النتائج سيكون بمثابة خطوة انتحارية قد تسرع في تفكك البنية الاقتصادية والسياسية لإسرائيل.
المفارقة أن التحذيرات لا تأتي فقط من “أعداء إسرائيل”، بل من داخل أروقة مؤسساتها المالية والأمنية، التي ترى في الخطة فخًا إستراتيجيًا قد تستفيد منه المقاومة الفلسطينية وحلفاؤها، لإطالة أمد الاستنزاف حتى الانهيار الكامل.