الوقت - إن مسيرة الأربعين الحسيني، التي تُعد من أعظم وأجلّ التجمعات الدينية في العالم، تستقطب سنوياً ملايين المؤمنين من شتى بقاع الأرض، ولا سيما من إيران وباكستان، ليشدوا الرحال إلى أرض العراق، حيث تجتمع الأرواح على حب الحسين بن علي (عليهما السلام)، في مشهد يفيض بالمهابة ويجسّد أسمى معاني الولاء.
ومع اقتراب موعد هذا الحدث المهيب، الذي يواجه تحديات أمنية ولوجستية وصحية تفوق الوصف، احتضنت طهران الاجتماع الثلاثي الذي جمع وزراء الداخلية في إيران والعراق وباكستان، والذي حمل بين طياته رؤى مشتركة لتنسيق الجهود التنفيذية وتوطيد دعائم الأمن في خدمة الزائرين، ممن تُكتب خطواتهم في طريق الولاء بحروفٍ من نور.
غير أن أهمية هذا الاجتماع لم تقف عند حد تسهيل مراسم الأربعين، بل امتدت إلى ما هو أعمق وأبعد، حيث أسهم في تعزيز أواصر العلاقات الاستراتيجية بين إيران وباكستان، وفتح آفاقاً جديدةً للتعاون المثمر في الحقلين الأمني والسياسي.
نتائج الاجتماع والتوافقات الثلاثية
شهد الاجتماع الأخير الذي جمع وزراء الداخلية في إيران والعراق وباكستان نقاشات معمقة، حول سبل التنسيق الأمني والتنظيمي لتسهيل حضور الزائرين في مراسم الأربعين الحسيني، تلك المناسبة التي تجسد معاني الولاء والإيمان في أبهى صورها. وقد أثمر هذا الاجتماع عن توافقات جوهرية، كان من أبرزها ما يلي:
1. تيسير العبور من الحدود المشتركة
اتفقت الأطراف على زيادة عدد المنافذ الحدودية وتقليص الإجراءات الإدارية لتسهيل عبور الزائرين، وخاصةً على الحدود بين إيران والعراق، إذ يُعَدّ التأخير في اجتياز الحدود بسبب كثافة الحشود والإجراءات البيروقراطية، أحد أبرز التحديات التي تواجه الزائرين.
وفي هذا السياق، أشار عبد الأمير الشمري، وزير الداخلية العراقي، إلى أن العراق استضاف العام الماضي أكثر من خمسة ملايين زائر أجنبي، من بينهم ثلاثة ملايين زائر قدموا من إيران، بينما جاء البقية من دول أخرى، وقد دعا الوزير العراقي نظيره الباكستاني إلى تنسيق حركة الزائرين الباكستانيين لضمان عودتهم إلى بلادهم بسلاسة.
وبناءً على هذه الحاجة الملحة، اتُفق خلال الاجتماع على زيادة المنافذ الحدودية بين إيران والعراق، مثل منافذ مهران، وشلمجة، وجذابة، لتخفيف الضغط وتيسير حركة الزائرين، وتشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 3.5 ملايين زائر إيراني عبروا إلى العراق في العام الماضي، إضافةً إلى 500 ألف زائر باكستاني، ومن المتوقع أن تشهد هذه الأرقام ارتفاعاً ملحوظاً في العام الجاري.
كما تم الاتفاق على تسريع إصدار التأشيرات للزائرين الباكستانيين من خلال تقليص فترات الانتظار، عبر نشر أنظمة إلكترونية متطورة لتسجيل البيانات واستقدام فرق شرطية مختصة، وأعلنت الحكومة العراقية استعدادها لتوسيع طاقتها الاستيعابية لاستقبال الزائرين في مدينتي النجف وكربلاء، اللتين تحتضنان مراسم الأربعين الحسيني.
2. التعاون الأمني
تم الاتفاق على تشكيل لجان أمنية مشتركة لمواجهة التهديدات المحتملة ومنع تسلل العناصر الإرهابية إلى مراسم الأربعين.
ومع تصاعد خطر الجماعات الإرهابية مثل تنظيم "داعش" في العراق وأفغانستان، فضلاً عن حالة عدم الاستقرار في سوريا عقب سيطرة المجموعات المسلحة والتكفيرية على دمشق، ارتفعت احتمالات استغلال التجمعات الكبرى لتنفيذ أعمال تخريبية، وفي هذا الصدد، توصلت الدول الثلاث إلى تفاهمات أمنية شملت:
إنشاء نقاط أمنية مشتركة على الطرق المؤدية إلى الأماكن المقدسة.
تعزيز الرقابة على العناصر المشبوهة باستخدام أنظمة ذكية للتعرف على الهوية.
تبادل المعلومات الأمنية المتعلقة بالتهديدات عبر قنوات اتصال مباشرة.
3. تحسين الخدمات اللوجستية والرفاهية
إن إقامة مراسم الأربعين الحسيني على نحو يليق بعظمة هذه المناسبة التي تجمع الملايين من الزائرين من مختلف أنحاء العالم، يتطلب توفير الظروف اللوجستية والصحية والخدمية المناسبة، لضمان راحة الحشود وتلبية احتياجاتهم، ورغم أن العبء الأكبر في استقبال الزائرين يقع على عاتق المواكب الشعبية والجماهير التي تفيض حباً وولاءً لسيد الشهداء (عليه السلام)، إلا أن الدور الحكومي يبقى محورياً في توفير البنية التحتية اللازمة، بما يشمل النقل والإسكان والخدمات الصحية والعلاجية.
وفي إطار الاجتماع الثلاثي الأخير، جرت مناقشات معمقة لتنسيق الجهود الرامية إلى تعزيز قدرة النقل البري والجوي، وتحسين ظروف الإقامة للزائرين في العراق. كما تم الاتفاق على زيادة عدد نقاط الإسكان المؤقت على طريق نجف-كربلاء، وتوسيع نطاق الخدمات الطبية، بما في ذلك إنشاء مستشفيات ميدانية على الطرق المؤدية إلى المراقد المقدسة، بهدف الوقاية من انتشار الأمراض وتقديم الرعاية الصحية العاجلة.
هذه الترتيبات لا تسهم فقط في تخفيف العبء عن العراق الذي يواجه تحديات كبيرة في إدارة هذا العدد الهائل من الزائرين، بل تهيّئ الظروف لإقامة مراسم أكثر أماناً وتنظيماً، إذ لا يمكن للعراق وحده أن يتحمل هذا الضغط الهائل، ما يجعل التعاون بين إيران وباكستان في توفير الدعم الإغاثي والأمني، ضرورةً قصوى لتعزيز استقرار المناسبة وإنجاحها.
تعزيز الدبلوماسية الدينية: توطيد العلاقات بين إيران وباكستان
لم يكن الاجتماع الثلاثي الأخير مجرد خطوة نحو تسهيل مراسم الأربعين الحسيني وإدارتها بشكل آمن ومنظم، بل كان تجسيداً لعُمق العلاقات الاستراتيجية بين إيران وباكستان، وتأكيداً على تقاطع المصالح في المجالات الأمنية والسياسية، لقد بات واضحاً الآن أن دبلوماسية الأربعين الحسيني تتجاوز كونها تعاوناً دينياً، لتصبح أداةً استراتيجيةً لتعزيز الوحدة الإقليمية في مواجهة التحديات المشتركة.
إن التناغم بين إيران وباكستان في دعم قوى المقاومة ومواجهة التهديدات المشتركة، يُمكن أن يلعب دوراً محورياً في صياغة معادلات المنطقة، وخاصةً في ظل مساعي الغرب لعزل إيران، ومن هنا، يُعد التعاون بين البلدين قادراً على تغيير موازين القوى الإقليمية، ممهداً الطريق أمام تحالفات جديدة تخدم مصالحهما المشتركة.
علاوةً على ذلك، فإن هذا التعاون يُبرز اتحاد العالم الإسلامي في الدفاع عن القيم التي يمثلها النهج الشيعي، ما يساهم في تقليل التوترات الطائفية وتعزيز روح الوحدة بين المسلمين، وفي أجواءٍ إقليمية ودولية معقدة، يظل هذا النوع من التعاون نموذجاً يُحتذى به في بناء جسور التفاهم وتوطيد العلاقات بين الدول الإسلامية.
دعم باكستان لإيران ومحور المقاومة
في الحرب التي استمرت اثني عشر يوماً بين إيران والكيان الصهيوني، اتخذت إسلام آباد موقفاً حازماً في دعم إيران، مُظهرةً نفسها كحليفٍ راسخ في المنطقة، لم يكن هذا الدعم مقتصراً على تلك الحرب، بل امتد إلى قضايا إقليمية أخرى، مثل الحرب في اليمن، حيث رفضت باكستان الانضمام إلى التحالف العربي-السعودي.
وفيما يتعلق بعملية تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، أعلنت باكستان معارضتها الصريحة لهذا المسار، مؤكدةً وقوفها الدائم إلى جانب حقوق الشعب الفلسطيني. كما كررت موقفها الداعم للمقاومة الفلسطينية في مواجهة العدوان على غزة، متبنيةً سياسات إقليمية تتناغم مع محور المقاومة.
من جهتها، لم تتأخر إيران في دعم حقوق المسلمين في كشمير، مجسدةً وقوفها إلى جانب باكستان في هذا الملف الحساس، هذا التوافق السياسي عزّز أواصر العلاقة بين البلدين، وجعلها أكثر صلابةً وقوةً، حيث باتت تقوم على أساسٍ من القيم المشتركة والمواقف المبدئية.
التعاون الأمني والعسكري
تربط إيران وباكستان، كشعبين مسلمين شقيقين، علاقات تاريخية وثيقة، تستند إلى مشتركات دينية وثقافية عميقة، ما انعكس إيجاباً على تطور العلاقات بينهما في مختلف المجالات، تمتلك الدولتان إمكانات واسعة للتعاون، ويشهد على ذلك عضويتهما المشتركة في العديد من المنظمات الإقليمية والدولية مثل منظمة التعاون الاقتصادي (إيكو)، ومنظمة شنغهاي للتعاون، واحتمال انضمامهما إلى مجموعة بريكس في المستقبل القريب.
وفي تطور مهم العام الماضي، قام الشهيد الفريق قاسم باقري بزيارة إلى إسلام آباد، شهدت توقيع اتفاقية للتعاون الأمني بين البلدين، معلنةً عن بداية فصل جديد في العلاقات الثنائية، وقد جاءت هذه الاتفاقية استجابةً للتحديات الأمنية المشتركة، مثل انتشار الإرهاب في أفغانستان وآسيا الوسطى، والتحركات الانفصالية في إقليم بلوشستان، سواء في باكستان أو إيران، ومع تصاعد تهديدات الكيان الصهيوني، الذي يسعى لزعزعة استقرار المنطقة، ازدادت أهمية هذا التعاون الأمني، ليصبح أكثر تماسكاً وقوةً.
وفي ظل تقارب العلاقات بين البلدين، تبرز إمكانات كبيرة لتعزيز التعاون العسكري والدفاعي بينهما، ومن بين المجالات الواعدة، التعاون في صناعة الطيران والدفاع الجوي، حيث تُعد باكستان قوةً جويةً بارزةً في المنطقة بفضل إنتاجها للطائرات الصينية والمقاتلات المحلية، بينما تُعتبر إيران من رواد الصناعة الدفاعية في مجال الطائرات المسيّرة وأنظمة الدفاع الجوي المتقدمة على مستوى المنطقة والعالم.
إذا استمرت هذه الشراكة في النمو، فإن محور طهران-إسلام آباد سيصبح قطباً إقليمياً قوياً مناهضاً للكيان الصهيوني، بما يعزز الاستقرار ويعيد رسم خارطة التوازنات في المنطقة.