الوقت- لا تتوقّف حدود القرار الذي تبنّاه مجلس الأمن الدولي بالإجماع حول اتفاقات الهدنة في سوريا عند حدود هذه الأزمة ولاعبيها. مفاعيل القرار الذي أعدته روسيا بغية إطلاق عملية سياسية لتسوية الأزمة التي تمر بها البلاد، تتعدّى حدود المنطقة، لتصل إلى هيكليّة النظام العالمي وتوازن القوى الدوليّة.
الأفول الأمريكي على الساحة الآسيوية واضح، سواءً في شرقها أو غربها، ولعل هذا الأفول الذي بلغ مراحل متقدّمة مع انتصار حلب الاستراتيجي الذي أسقط الرهانات الأمريكية، برزت اليوم إحدى مصاديقه الدبلوماسيّة بعد تبنى مجلس الأمن الدولي، بالإجماع مشروع القرار "2336" الذي أعدته روسيا لدعم اتفاقات الهدنة في سوريا وإطلاق العملية السياسية لتسوية الأزمة التي تمر بها البلاد.
أوباما الذي سيودّع البيت الأبيض بعد أيام، دخل عامه الجديد بنكسة جديدة، زادت من طينته بلّةً في الملف الذي شيّبه، وفق زعمه. فالرئيس الأمريكي الذي لم يستطع اتخاذ قرارات حاسمة في الملف السوري، تماماً كما هو الحال في الملف الفلسطيني والأفغاني و..، وعجز عن الوفاء بالوعود التي قطعها على نفسه تجاه سوريا، لتصعد قوى أخرى على حساب هذا الأفول الأمريكي.
عصر الأفول
كثيرة هي مظاهر الأفول الأمريكية في الميدان، بدءاً من أفغانستان مروراً بالعراق وصولاً إلى لبنان الذي شهد أفولاً للوكيل الإسرائيلي، لكن الأفول الدبلوماسي الذي شهدناه بالأمس يؤكد أن قواعد الاشتباك الدولي تتغيّر بوتيرة غير مسبوقة، فالقرار الأخير جاء رغم أنف واشنطن، ورغم حصول بعض التعديلات، إلا أن التبني الذي حصل بالإجماع جاء نتيجةً للاجتماع الروسي الإيراني التركي المشترك الذي حصل في روسيا ونتج عنه "إعلان موسكو" للدخول في حلّ سياسي للأزمة السوريّة. تكاد تكون المرّة الأولى الذي يصدر فيها مجلس الأمن الدولي قراراً بالإجماع دون أي دور أمريكي يذكر سوى الاستضافة في مقرّ الأمم المتحدة!
إذاً، لا يعدّ القرار"2336" نقطة تحوّل في الأزمة السوريّة فحسب، بل في كافّة الملفات الإقليمية، وكيفية صدور القرارات في مجلس الأمن، ويحمل هذا التحوّل جملة من الرسائل أبرزها:
أوّلاً: أثبتت القوى الإقليميّة قدرتها على إدارة أزمات المنطقة وسحب البساط من تحت الأطراف الغربيّة كافّة. لا شكّ أن كل هذا لم يكن ليحصل لولا انتصار حلب الإستراتيجي، وبالتالي لا بد من فرض الشروط على الطرف الأمريكي عبر الميدان، لأن لغة "القوّة" هي اللغة الوحيدة التي أثبتت جدواها حتى الساعة مع الطرف الأمريكي، على مختلف مسمّياته، جمهوريّاً كان أم ديمقراطيّاً.
ثانياً: إن القرار، وما سبقه، لم يحصل إلا بعد إبعاد لاعبين الأول دولي، أمريكا، والآخر إقليمي، السعودية، والسنوات الخمس السابقة خير دليل على ذلك. لا ينحصر هذا الأمر بالأزمة السورية، بل ينطبق على كافّة الأزمات الأخرى.
ثالثاً: لم تعد قمرة مجلس الأمن محصورة بأمريكا، فقد أثبتت روسيا من خلال تعاونها مع الأطراف الإقليميّة قدرتها على استصدار قرار أممي بالإجماع.
رابعاً: لقد جاء في البند الثاني من القرار الأممي التأكيد على حفظ وصيانة استقلال سوريا وأراضيها، وذلك خلافاً لما أعلنته الإدارة الأمريكية، ولاحقاً الكيان الإسرائيلي، لعشرات المرّات. وبالتالي نجح إعلان موسكو في 20 ديسمبر الماضي بصيانة وحدة التراب السوري وإسقاط المشروع الأمريكي الإسرائيلي لإسقاط سوريا. هذا السقوط لا يسجّل لواشنطن و "تل أبيب" فحسب، بل لكافّة الدول والأطراف التي راهنت على ذلك، وفي مقدّمتها بعض الدول العربيّة.
أسباب الأفول
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: ما هي أسباب هذا الأفول الأمريكي؟! وهل سترتفع حدّته مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض أم العكس؟ هناك أسباب عدّة تقف خلف هذا الأفول الأمريكي، وعلى كافّة الصعد نذكر منها:
أوّلاً: القرار الإقليمي بالمواجهة والوقوف أمام المشروع الأمريكي رغم كافّة التحدّيات، وبالفعل أثبتت هذه الرؤية صوابيّتها منذ زمن، ولنا في الثورة الإسلاميّة في إيران، وحزب الله في لبنان، واليوم الجيش السوري وحلفائه خير دليل على ذلك.
ثانياً: هناك أسباب تتعدّى الإقليم حيث لم تعد قمرة قيادة النظام الدولي محصورة بأمريكا، لاسيّما مع العودة الروسيّة القوية إلى الساحة الدولية، وكذلك العملاق الصيني والهند ودول البريكس. كل هذه الدول تسعى للمشاركة في القرارات السياسية الدولية.
ثالثا: العجز الأمريكي. نعم إن عجز النظام الأمريكي على الصعيدين الداخلي والخارجي أحد أسباب هذا الأفول، وإن الأفول الخارجي مرجّحاً للارتفاع مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، لاسيّما أنّه أعلن نيّته التركيز على الداخل. في الواقع، هناك إرادة أمريكية جديدة تفضّل الانسحاب نحو الداخل، وذلك بسبب الإخفاقات العسكرية المتكررة.
ما نتابعه اليوم من تقلبات سياسية وتحولات جيوسياسيّة، وتراجع نفوذ أمريكا في منطقة الشرق الأوسط لصالح روسيا وإيران وتركيا، وفي آسيا لصالح العملاق الصيني، كل هذا وغيره الكثير، يؤكد، بأن توازن القوى الدولية، قد تغير ودخل مرحلة جديدة، قد تعيده إلى مرحلة ما قبل تسعينيات القرن الماضي.
قبل عشرة أعوام أرادت وزير الخارجية الأمريكية "كونداليزا رايس" شرق أوسط جديد وفق المشروع الأمريكي، إلا أننا اليوم وبعد عشر سنوات على التخطيط والتمويل والتنفيذ الأمريكي، نشهد مخاض ولادة شرق أوسط جديد بنكهة مختلفة، ووفق المشروع الذي يحارب أمريكا. قد يتساءل البعض عن أصحاب هذا المشروع، نجيبهم: فتّشوا عن أعداء أمريكا في المنطقة، فإذا عُرف السبب بطُل العجب.