الوقت- تتزاحم الأحداث المتسارعة في العالم و خصوصا في منطقة الشرق الأوسط، التي تكتنز الكثير من ثروات العالم الطبيعية بما فيها النفط و الغاز الطبيعي و تتمتع بالموقع الإستراتيجي الحيوي، حيث نشبت بسببه حروب و اصطفافات دولية متعددة، فسقطت لأجله حكومات و ظهرت من عائداته دولا أخرى لم تكن سوى بادية و صحراء قاحلة.
و بما أن أمريكا سعت منذ بدايات القرن الماضي الى الهيمنة على العالم جعلت من أولوياتها الاستئثار بهذه الموارد، فأصبحت القطب الرئيسي الذي تدور في فلكه الكثير من دول العالم.
كما اهتمت امريكا كثيرا بمبدأ أحادية القطب، فجهدت على أن لا تفقد هذه الهيمنة، و لم تترك وسيلة الا استخدمتها بوجه الدول التي وقفت بوجهها- و الاتحاد السوفياتي دليل على ما ذكر- فمولت بالمال الخليجي السخي المتطرفين تحت راية القاعدة، ثم عادت و وضعتها على لائحة الارهاب عندما رأت فيها حجة للعودة عسكريا الى المنطقة.
قواعد اللعبة في المنطقة بدأت تتغير، بعد قيام الثورة الاسلامية في ايران بوجه الحليف الأقوى لأمريكا انذاك و الذي كان بمثابة شرطي الخليج الفارسي و الأداة الطيعة في اليد الأمريكية،" شاه ايران المخلوع محمد رضا بهلوي".
حسابات الجمهورية الاسلامية الجديدة لم تتطابق مع اللاعب الأمريكي الذي أحس بالخطر على مصالحه، ففعل ما بوسعه, و ما يزال, لاسقاط هذا النظام الماضي, منذ نشأته, بالتقدم و التطور بخطى ثابتة راسما قواعد جديدة في المنطقة و فارضا نفسه على الساحة الاقليمية و الدولية.
الصعود الايراني ترجمته القيادة الايرانية بخطوات,عملت من خلالها على استنهاض الأمة الاسلامية ككل عبر دعوة الشعوب للوقوف بوجه الظلم و الغطرسة, بدء بفلسطين ومرورا بلبنان و العراق و اليمن و سوريا، وصولا لدول افريقيا و أمريكا اللاتينية. و برغم الحصار و العقوبات المجحفة بحقها، واصلت ايران نموها اللافت بموازاة ضعف أصاب الجسد الأمريكي، مهددا بتراجع نفوذه بشكل متسارع.
وأساس الضعف الذي يصيب أمريكا حاليا هو نتاج أمرين أساسيين: الأول واقع إقتصادي ومالي متدهور، و الثاني سياسات خارجية خاطئة بدأت مفاعيلها تظهر بعد أحداث 11 أيلول 2001م في عهد جورج بوش الابن، و استمرت بعد احتلال أفغانستان و العراق و التدخل في الأزمة السورية لمصلحة الجماعات الارهابية التي لم يعد باستطاعة الادارة الأمريكية السيطرة عليها حيث ظهرت حالة التخبط الأمريكي و الأوروبي الذي شرع بدق الباب الايراني طلبا للخروج من المستنقع السوري العراقي الذي غرق فيه و أغرق معه الدول التي امتطت مركبه، علما أنها ليست المرة الأولى التي تطلب الادارة الأمريكية التعاون الأمني من طهران، فقد طلبت ذلك في أفغانستان و العراق أثناء احتلالها للبلدين و أثناء انسحابها من العراق و الان قبيل سحب قواتها من أفغانستان.
على الصعيد الاقتصادي، كانت أمريكا قبل بضعة عقود أكبر دولة مدينة في العالم أما اليوم أصبحت أكبر دولة دائنة، حيث تعاني ميزانيتها من عجز يبلغ تريليونات الدولارات. وكان إقتصادها ووضعها المالي هو الركيزة الأساسية لنفوذها,حيث مكَّنها من خوض الحروب والهيمنة السياسية علی باقي الدول في صور عدة منها: القوة الناعمة، تقديم القروض والإعانات والإغراءات المالية للحصول علی مكاسب كتصويت بعض أعضاء مجلس الأمن على قرارات تصب في خدمة مصالحها أو مصالح حليفتها إسرائيل.
أما حاليا فإنها في وضع إقتصادي لا يسمح لها بذلك لأن دينها القومي يبلغ 11 تريليون دولار، و يُتوقع أن يرتفع بمعدل تريليون دولار سنويا، ويبلغ الدين الخارجي تريليونات الدولارت. كما أن المواطنين الأمريكان يدينون ب 11 تريليون دولار للمصارف وشركات بطاقات الإئتمان. وكان المصرفين المركزيين الصيني والياباني قد إشتريا مايساوي تريليون دولار من السندات المالية للحكومة الأمريكية، ليس لأنه استثماراً جيداً، ولكن لضمان عدم تدهور الإقتصاد الأمريكي أكثر، وبالتالي، التأثير السالب علی الإستيراد من الصين واليابان. كما يعاني المجتمع الأمريكي من أزمات أخرى تعكس حالة الضعف، كزيادة حدة التفاوت في الدخل بين الطبقتين الفقيرة والغنية، وما تفرزه من آفات إجتماعية، ونسبة بطالة تبلغ 10%، لا يُتوقع إنخفاضها بصورة كبيرة رغم تحسن عقابيل الكساد. تعاني أمريكا أيضاً من بنية تحتية متآكلة، وتخلف التعليم والبحوث إذ أن الصين صنَّعت أسرع كمبيوتر في العالم، وأضخم مركز أبحاث للطاقة الشمسية، وقطارات أسرع ومطارات أفضل (ذكره أوباما في خطاب حالة الإتحاد).
أما ايران فهي بموقعها الإستراتيجي، ومساحتها الواسعة، وسكانها البالغ عددهم اكثر من 75 مليون نسمة، وثرواتها من النفط والغاز والمناجم، وشعبها الذكي الكفوء، ونظامها الحكيم الذي اعتمد منذ قيامه على الجهد الداخلي للتطور الاستراتيجي الطويل الأمد، فانها تقوم بدور رئيسي وبناء في منطقة الخليج الفارسي والشرق الاوسط وهي ضمانة للامن والسلام في المنطقة،و قد أثبتت خلال اكثر من 36 عاما بأنها تريد الاستقرار لمنطقة الخليج الفارسي عكس العديد من دول المنطقة التي تحاول الايحاء للاخرين بأن ايران خطر على دول المنطقة ولا تريد الاستقرار لها، مهولين من فكرة تمدد الهلال الشيعي التي لا أساس لها من الصحة.
اضافة الى الجهد الذي حققته على الصعيد السياسي، كان لايران خطوات بارزة على الصعيد الاقتصادي و العلمي. خطوات واعدة تتيح لايران ان نجحت برفع الحظر عنها، أن تسير بشكل سريع لتصبح منافسا من الدرجة الأولى اقتصاديا و علميا لما تحتويه من طاقات بشرية و علمية هائلة.
الولايات المتحدة والغرب يدركان ايضا دور ايران في الشرق الاوسط وما يعني تواجدها الفعال في الساحة السياسية ونفوذها الاقليمي واستعدادها للتعاون مع القوى الكبرى في المنطقة لحل المشاكل التي تعاني منها دولها ، وقد أثبتت ايران في افغانستان والعراق وسوريا و لبنان و اليمن و فلسطين و غيرها من الدول، بأنها ركن أساسي في المنطقة لا يمكن لأحد تجاهلها، و بانها مستعدة للقيام بدور بناء في حل الازمات في المنطقة.
على الصعيد العسكري، استمرت الجمهورية الاسلامية الايرانية بتطوير منظوماتها الدفاعية و الصاروخية، و قد كان لافتا الاختبار الناجح لصاروخ شهاب 6 الذي أجرته مؤخرا و الذي يبلغ مداه 10000 كلم، مما يضعها في خانة الدول المنتجة للصواريخ العابرة للقارات.
القوى الكبرى اعترفت بدور ايران الاقليمي والعالمي، ولا حاجة لايران ان تستمع الى صراخ بعض دول المنطقة و حملاتها العشوائية ضدها، وكانت كلمة الرئيس الامريكي في الامم المتحدة خير دليل على ان الولايات المتحدة تولى أهمية كبرى لدور ايران في وتعتبرها دولة مؤثرة في اقرار السلام والامن والاستقرار في المنطقة ، كما أن الاتحاد الاوروبي بدوره يرغب باقامة علاقات متكافئة مع ايران لانه يدرك مدى قدرات ايران وما تمثله من وزن في المنطقة وما يعود عليه من منافع ان عزز علاقاته الدبلوماسية والتجارية معها.
هذا في الوقت الذي يشهد الشرق الاوسط ، ضمور الدول التي تدعي انها بامتلاكها النفط والنفوذ يمكنها ان تقوم بدور رئيسي ومصيري في المنطقة. حيث لعبت دورا تخريبيا في الازمة السورية بدعم الجماعات الارهابية التي دخلت الاراضي السورية عن طريق حدودها. فوعدت باسقاط النظام في سوريا خلال عدة اشهر واستخدمت أموال النفط لاسقاط النظام ولكنها بدلا من تحقيق هدفها، واجهت ازمة داخلية كادت أن تطيح بحكومتها.
الأعوام القليلة القادمة ستكون كفيلة لاعادة تموضع دول كانت حتى الأمس القريب تحت كنف الحليف الأمريكي، حسب تقرير مفصل لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، شرحت فيه باسهاب كيفية خروج 8 دول من دائرة النفوذ الأمريكي ككوريا الجنوبية و جورجيا و باكستان و تايوان و دول الشرق الأوسط عموما.
اذن أيقنت هذه الدول أن الورقة الأمريكية مستقبلا ليست رابحة، فالأحادية العالمية لم تعد موجودة مع صعود دول عظمى كالصين و روسيا و الهند، و القرار الأمني و السياسي لم يعد حكرا بيد اللاعب الأمريكي، و الوضع في المنطقة لا يمكن صياغته دون المرور على الرأي الايراني الصلب الذي فرض نفسه بقوة من خلال سياسة ذكية و ثبات قل نظيره، حيث أصبح مدرسة للممانعة و الادارة الاستراتيجية الحكيمة.