الوقت - لطالما كانت هجرة اليهود إلى الكيان الإسرائيلي الذي يعيش فيه اليوم حوالي 8.345 مليون من ضمنهم 1.730 مليون فلسطيني، بمثابة الدم الذي يجري في عروق هذه "الغدّة" المعزولة عن محيطها، رغم كافّة المضادات التي تحقنها أمريكا وأوروبا في الأنظمة الإقليمية لقمع أي ردّة فعل من جهاز مناعتها المتمثل بالشعوب العربية والإسلامية التي تأبى منذ عام 1948 حتى يومنا التأقلم مع هذا الجسم الغريب.
جهاز المناعة هذا والذي شاهدنا آخر ضرباته بالأمس في عملية تفجير حافلة القدس التي نفّذها الشهيد عبد الحميد أبو سرور (أستشهد متأثراً بجراح أصيب بها إثر التفجير الذي نفذه الاثنين الماضي)، أدى إلى بروز ظاهرة خطيرة بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي تحت عنوان "الهجرة المعاكسة".
لا ريب في أن "الهجرة المعاكسة" باتت تؤرق سلطات الکيان الإسرائيلي بشكل أكبر من السابق، لاسيّما بعد تناميها في السنوات الأخيرة حيث باتت تشكل مصدر قلق للمؤسسة الإسرائيلية لاحتمال تنامي ما تراه خطرا ديموغرافيا فلسطينيا، وهذا ما دفعها مؤخراً لتعزيز إستقطاب يهود الخارج كان آخرها 1300 من يهود "الفلاشا" من أثيوبيا.
يهود روسيا والهجرة المعاكسة
لا يمكن حصر أسباب الهجرة المعاكسة التي تشكّل نقيضاً وجودياً لأهم الأسس الثلاثة للصهيونية ومبرر وجودها بـ"مناعة" الشعوب العربية والإسلامية، بل يلعب التمييز العنصري، إضافةً إلى الهوية والإنتماء دوراً بارزاً في تعزيز التفكير بالهجرة حيث تخطّى الأمر حاجز الـ50% في العام 2013، وفق إستطلاع للرأي العام الإسرائيلي. القناة الإسرائيلية العاشرة أصدرت مؤخراً تقريراً تطرق إلى أوضاع الهجرة الخاصة بيهود روسيا الذين كانوا يشكّلون القوة الثانية في الکيان الإسرائيلي لعدة سنوات.
ويوضح التقرير أن "هجرة اليهود الذين قدموا من روسيا (الاتحاد السوفيتي سابقًا) إلى "إسرائيل"، تصاعدت في الآونة الأخيرة"، وتشير القناة إلى أن نحو خُمسْ المهاجرين إلى الكيان الإسرائيلي من الاتحاد السوفيتي في سنوات التسعينيات (ما يُقارب المليون يهودي)، هاجروا إلى بلدان أخرى، وبالتحديد إلى كندا، "لأنهم شعروا بأنهم لا ينتمون لإسرائيل".
وتنقل القناة العاشرة عن أحد المهاجرين قوله: "جئت إلى إسرائيل عندما كان عمري 6 سنوات، مع المئات من العائلات الشابة، وخدمت في الجيش وتزوجت في البلاد، ولكن مع ذلك لم أشعر أنني أنتمي لهذا المجتمع، وهاجرت مع عائلتي إلى كندا".
ويلفت التقرير إلى أن 15 في المائة من المهاجرين في سنوات التسعينيات "غادروها بالفعل، لأنهم لم يجدوا لهم مكانًا فيها"، مبينة أن إحدى المهاجرات "والتي مكثت 22 عامًا في "إسرائيل"، غادرتها لأنها لم تشعر بأن (إسرائيل) بيتها".
الأبعاد والنتائج
إن ظاهرة الهجرة المعاكسة المرتفعة في ظل ركود الهجرة إلى "أرض اليهود المقدسة" باتت تشكّل كابوسا حقيقيا للساسة الإسرائيليين ودوائر صنع القرار فيها، وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى التالي:
أولاً: إن سياسة التمييز العنصري التي تعاني منها بعض الفئات اليهودية، على سبيل المثال يعاني يهود روسيا من سياسة التمييز العنصري من جانب اليهود الغربيين ومن جانب الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي سيطر عليها اليهود الغربيون، تؤكد أن التجمعات السكانية والإستيطانية لا يصح إطلاق مصطلح "مجتمع" عليها بسبب هشاشتها وعدم إنسجامها وتجانسها.
ثانياً: بصرف النظر عن الأسباب الكامنة خلف الهجرة والتي تندرج تحت إطار البحث عن الحياة تارةً والهروب من الموت أخرى، يعتبر هؤلاء المهاجرون أن أمنهم ودمهم أغلى من كل تقديمات الحكومة، لذلك يؤكد العديد منهم أن "نار الغرب أفضل من جنة إسرائيل".
ثالثاً: تؤكد العديد من الدراسات أن من أهم تداعيات الهجرة المعاكسة تساوي عدد السكان الفلسطينيين في المناطق المحتلة، وقد توصلت بعض الدراسات إلى استنتاج استراتيجي مفاده تحول اليهود إلى أقلية، وبالتالي الإنتقال من الحد الديمغرافي الحرج إلى مستوى الضرر الديمغرافي الذي يؤسس للإنهيار الداخلي للوجود البشري والمؤسَّسيّ للدولة اليهودية.
يبدو أن الظروف الداخلية في المجتمع اليهودي الهش إضافةً إلى الإنتفاضات الفلسطينية، سواءً الأقصى عام 2000 والتي شكلت مرحلة مفصلية فيما يتعلق بتنامي الهجرة المعاكسة لليهود من فلسطين المحتلة، أو الإنتفاضة الحالية بإعتبار أن الهجرة اليهودية إلى الكيان الإسرائيلي تراجعت بنسبة 38% في الأشهر الأخيرة مقارنة بذات الفترة من العام الماضي، وفق وزارة الاستيعاب في الکيان الإسرائيلي، باتت تشكّل تهديداً وجودياً لمشروع إحتلال فلسطين، ولعل هذا ما دفع رئيس وزراء الکيان الإسرائيلي السابق إسحق رابين لوصف المهاجرين بـ"أحقر أنواع الطفيليات".