الوقت - في خطوة تعكس تحوّلاً مهماً في إيقاع الصراع شمال وشرق سوريا، دفعت القوات الحكومية السورية بتعزيزات عسكرية كبيرة نحو مناطق ريف حلب الشرقي وريف الرقة الجنوبي. جاء هذا التحرك في أعقاب أسابيع من التوتر الميداني مع قوات سوريا الديمقراطية، التي كثفت عمليات الاستهداف ضد مواقع الجيش على خطوط التماس. شملت التعزيزات وحدات من الفرقة 60 والفرقة 76، إضافة إلى آليات مدرعة وقطع مدفعية، ما يشير إلى أن الأمر يتجاوز المناورة الدفاعية إلى نية إعادة رسم المشهد العسكري في تلك الجغرافيا الحساسة.
خلفية التحرك وأسبابه
يبدو أن القرار بإرسال هذه القوات جاء نتيجة مباشرة لفشل محاولات التهدئة الأخيرة، خصوصاً بعد الاجتماعات التي جرت في الحسكة بين ممثلين عن الحكومة السورية وقوات قسد بوساطة محلية، والتي لم تسفر عن أي التزام واضح. ترى دمشق، التي تعاملت بحذر مع الملف الشرقي نظراً لتشابك المصالح الدولية، أن الصبر على خروقات قسد يضعف هيبتها ويفتح الباب أمام تحديات أكبر، سواء من الفاعلين المحليين أو من القوى الإقليمية التي تراقب الوضع عن كثب.
البعد الجغرافي والاستراتيجي
لم يكن اختيار مناطق مثل سد تشرين ودير حافر والزملة اعتباطياً. فهذه المواقع تمثل مفاتيح مائية ولوجستية مهمة، بالإضافة إلى كونها خطوط تماس قريبة من المعابر النهرية المؤدية إلى شرق الفرات. السيطرة على هذه النقاط تمنح الحكومة السورية الجديدة أفضلية ميدانية في مواجهة مفتوحة، وتتيح لها الضغط على قسد من مواقع متقدمة، مع إبقاء خيارات التصعيد أو العودة إلى المفاوضات مفتوحة.
رسائل التحرك العسكرية والسياسية
على الصعيد العسكري، ترسل هذه التعزيزات رسالة واضحة بأن الحكومة السورية الجديدة مستعدة للانتقال من الدفاع إلى الهجوم إذا اقتضى الأمر. كما تمثل رسالة طمأنة للحاضنة الشعبية الموالية في تلك المناطق، التي طالما شكت من ضعف الانتشار الرسمي مقارنة بنفوذ قسد. سياسياً، يضع هذا التحرك القوى الإقليمية والدولية أمام واقع جديد: دمشق لن تكتفي بالمراقبة، ومستعدة لتقويض ترتيبات الأمر الواقع التي صيغت خلال سنوات الحرب، حتى لو أدى ذلك إلى مواجهة مع طرف تدعمه الولايات المتحدة بشكل غير مباشر.
الموقف المحلي وردود الفعل
المشهد المحلي معقد؛ فالعشائر العربية في شرق الفرات تتابع باهتمام أي خطوة تحد من نفوذ قسد، خصوصاً بعد سلسلة من الاحتكاكات والخلافات حول إدارة الموارد وتقاسم السلطة. تعكس تصريحات بعض شيوخ العشائر المؤيدة للتحرك العسكري رغبة في استعادة نفوذ الدولة في تلك المناطق، أو على الأقل موازنة القوة مع قسد التي تتصرف كسلطة أمر واقع مستقلة. في المقابل، يخشى آخرون أن يؤدي التصعيد إلى جولة جديدة من القتال العنيف يدفع المدنيون ثمنها الأكبر.
انعكاسات محتملة على المشهد الأوسع
من المرجح أن يشعل هذا التحرك جبهة جديدة في الشمال الشرقي، خصوصاً إذا تزامن مع تحركات موازية من الجيش التركي أو الفصائل المدعومة منه، التي ترى في أي ضعف لقسد فرصة لتوسيع نفوذها. مثل هذا السيناريو قد يعيد تشكيل التحالفات الميدانية وربما إعادة توزيع السيطرة في بعض المناطق. على المستوى الإنساني، أي تصعيد واسع سيؤدي بلا شك إلى موجات نزوح جديدة، ويزيد من تعقيد الوضع الإغاثي في مناطق تعاني أصلاً من هشاشة البنية التحتية.
قراءة في التوقيت والدوافع العميقة
ليس توقيت هذه الخطوة معزولاً عن السياق الإقليمي. تشهد المنطقة في الأشهر الأخيرة إعادة تموضع للقوى الفاعلة، مع تقارب تركي-سوري برعاية روسية، وتراجع نسبي في انخراط الولايات المتحدة، التي تركز اهتمامها على ملفات خارجية أخرى لتوسيع حضورها الميداني قبل إعادة تثبيت خطوط السيطرة. كما أن الحاجة إلى استعراض القوة أمام الرأي العام الموالي تجعل من هذه التعزيزات أداة لتأكيد قدرة الدولة على المبادرة في مسار الصراع.
السيناريوهات المحتملة
إذا استمرت دمشق في خيار التصعيد، فقد نشهد عمليات عسكرية محدودة للسيطرة على نقاط استراتيجية وإجبار قسد على التفاوض من موقع أضعف، هذا المسار محفوف بالمخاطر بسبب احتمال تدخل أطراف أخرى لمنع انهيار مواقع قسد. أما إذا كان الهدف الأساسي هو الضغط السياسي، فقد تتوقف التحركات عند إعادة الانتشار وتعزيز المواقع مع إبقاء الباب مفتوحاً أمام وساطات جديدة. في كل الأحوال، المشهد مرشح لمزيد من التعقيد، إذ التوازن بين الأطراف هش، وأي خطأ في الحسابات قد يشعل مواجهة أوسع.
تقدير الموقف
تعزيزات الحكومة السورية الجديدة نحو ريفي حلب والرقة تمثل أكثر من مجرد تحرك ميداني؛ إنها تعبير عن تحول في المقاربة تجاه شرق الفرات، ورسالة بأن مرحلة الصبر الطويل على الترتيبات الهشة قد انتهت. يطرح هذا التحرك سؤالاً جوهرياً: هل نحن على أبواب مواجهة جديدة تعيد رسم خطوط السيطرة في الشمال الشرقي، أم أن الأمر استعراض قوة لانتزاع تنازلات سياسية؟ الإجابة ستتضح خلال الأسابيع القادمة، لكن المؤكد أن الشرق السوري يدخل مرحلة أكثر حساسية، حيث تتداخل الحسابات المحلية والإقليمية والدولية بشكل لم يعد يسمح بأي هامش واسع للمناورة.