خلافات بين الجيش والحكومة الإسرائيلية بشأن إنشاء "مدينة إنسانية" في غزة
تشهد أروقة صنع القرار في إسرائيل تصاعداً في حدة الخلافات بين القيادة السياسية ممثلة برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وبين المؤسسة العسكرية، على خلفية خطة الحكومة لإنشاء ما يسمى "مدينة إنسانية" في شمال قطاع غزة. وفي خطوة غير معتادة، أصدر الجيش الإسرائيلي تحذيرات صريحة للقادة السياسيين في تل أبيب، معرباً عن قلقه الشديد من تبعات الإصرار على تنفيذ هذه الخطة، التي يراها عدد من قادة الأركان غير عملية وقد تترتب عليها نتائج معاكسة للأهداف المعلنة.
نتنياهو يقترح "مدينة إنسانية".. والجيش يعارض
في إطار المساعي الإسرائيلية للتعامل مع الأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة، طرح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مؤخراً خطةً تهدف إلى إنشاء "مدينة إنسانية" على مساحة جغرافية محددة شمال القطاع، من المفترض أن تُجمع فيها أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين، الذين نزحوا من مناطق العمليات العسكرية.
الخطة، التي رُوج لها على أنها خطوة لتخفيف الضغط الإنساني عن السكان، حظيت بدعم من بعض الأوساط السياسية في الحكومة اليمينية، لكنها في المقابل، واجهت معارضة واضحة من قبل المؤسسة العسكرية. فقد أفادت مصادر عسكرية بأن الجيش الإسرائيلي غير مستعد لتحمّل مسؤولية تنفيذ هذه المبادرة، ويرى أن مثل هذا التحرك قد يضعف الموقف الأمني ويخلق تحديات ميدانية معقدة.
تحذيرات من خطر أمني وتكتيكي
مصدر رفيع في هيئة الأركان الإسرائيلية قال لوسائل الإعلام العبرية إن "إنشاء منطقة إنسانية مغلقة من هذا النوع قد يتحول إلى ملاذ لعناصر حركة حماس أو لجماعات مسلحة أخرى، وهو ما قد يُعرّض القوات الإسرائيلية للخطر ويزيد من تعقيد العمليات العسكرية في القطاع."
كما أشار عدد من المحللين الأمنيين الإسرائيليين إلى أن مثل هذه الخطة لا تأخذ بعين الاعتبار الديناميكيات المتغيرة على الأرض، ولا تراعي الطبيعة المركبة للصراع في غزة، حيث غالباً ما تختلط خطوط المدنيين بالمقاتلين، وقد يصعب فرض رقابة أمنية فعالة على منطقة يقطنها عشرات الآلاف في ظروف متوترة.
الجيش الإسرائيلي: لسنا جهازاً لإدارة شؤون مدنية
الجيش الإسرائيلي، في مذكرات داخلية مسرّبة، أكد أنه ليس مسؤولاً عن إدارة الشؤون المدنية والإنسانية، بل إن مهمته تتركز في العمليات القتالية وتأمين الحدود. وأعرب كبار الضباط عن استيائهم من محاولة تحميل الجيش مسؤولية تنفيذ مشروع ليس من صميم مهامه، محذرين من أن تحويل الجيش إلى "جهاز إداري أو إنساني" قد يُربك أولوياته الاستراتيجية.
ورأى قادة في الجيش أن هذه الخطة، إذا فُرض تنفيذها، فإنها ستستنزف الموارد اللوجستية والعسكرية، وستُضعف من جاهزية القوات لمواجهة أي تصعيد جديد سواء من غزة أو من جبهات أخرى كلبنان.
خلاف متصاعد داخل الحكومة
الخلاف بين القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل ليس جديداً، لكنه بات يتخذ طابعاً أكثر علنية في ظل تدهور الوضع الأمني في غزة والتصعيد على الجبهة الشمالية. ويُنظر إلى هذه المواجهة الجديدة حول "المدينة الإنسانية" باعتبارها مؤشراً على التصدعات المتزايدة في منظومة اتخاذ القرار.
وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، الذي تربطه علاقة فاترة بنتنياهو، لم يُبدِ دعماً واضحاً للفكرة، في حين أشار بعض الوزراء إلى أن على الحكومة أن تلتزم بما يقرره الجيش، باعتباره الجهة التي تمتلك الخبرة والمعرفة الميدانية.
وفي المقابل، اتُّهم نتنياهو بالسعي إلى تحقيق مكاسب سياسية من خلال هذا المقترح، لا سيما مع تصاعد الضغوط الداخلية والدولية بسبب الوضع الإنساني المتردي في غزة، ولرغبته في تحسين صورته أمام المجتمع الدولي.
صدى دولي حذر تجاه خطة نتنياهو
ردود الأفعال الدولية حول فكرة "المدينة الإنسانية" تراوحت بين الترحيب المشروط والتحفظ. بعض الدول الغربية رأت أنها خطوة محتملة نحو تقليل المعاناة المدنية، لكنها أكدت أن ذلك لا يعفي إسرائيل من مسؤولياتها القانونية كقوة احتلال بموجب القانون الدولي.
من الجانب الفلسطيني، قوبلت الفكرة برفض واسع. فقد حذرت مؤسسات حقوقية ومجموعات فلسطينية من أن الهدف الحقيقي من الخطة قد يكون عزل السكان وتسهيل العمليات العسكرية لاحقاً في المناطق الأخرى من القطاع. كما رأت جهات فلسطينية أن إنشاء هذه المدينة قد يُستخدم كغطاء لتغيير ديموغرافي قسري في غزة، وهو ما يُعد انتهاكاً واضحاً للقانون الإنساني الدولي.
المقاومة الفلسطينية: حضور متجدد رغم المعاناة
رغم القصف العنيف والحصار المستمر، لا تزال روح المقاومة الفلسطينية حاضرة بقوة في وجدان الشارع في غزة. فالفلسطينيون الذين يتعرضون للترحيل القسري ويتكدسون في مناطق مدمرة أو في مخيمات بائسة، لا يرون في "المدينة الإنسانية" سوى محاولة لتكريس واقع جديد يهدف إلى تحييدهم سياسياً وعسكرياً.
وبحسب ناشطين ومحللين فلسطينيين، فإن محاولات عزل المدنيين في مناطق محددة لن تُضعف إرادة الصمود، بل قد تُعزز من تمسّك الناس بحقهم في العودة إلى بيوتهم ورفض أي مشروع يُروّج للتطهير العرقي أو التهجير المنظم تحت غطاء "المساعدات الإنسانية". وفي هذا السياق، لا تزال فصائل المقاومة تعبّر عن موقفها الرافض لهذه الخطط، مؤكدة أن معركة الوعي والبقاء لا تقل أهمية عن المواجهة المسلحة.
ماذا بعد؟.. احتمالات التصعيد والفشل
في ضوء هذه التحذيرات والتجاذبات، يبدو أن مشروع "المدينة الإنسانية" في طريقه إلى التجميد أو الإلغاء، ما لم تفرض القيادة السياسية رؤيتها بالقوة. لكن مثل هذا الخيار قد يُدخل المؤسسة السياسية في صدام مباشر مع الجيش، وهو أمر نادر في إسرائيل ويؤثر سلباً على وحدة الجبهة الداخلية في وقت الحرب.
كما أن إخفاق الحكومة في التنسيق مع الجيش بخصوص هذه الخطة قد يُفسَّر على أنه خلل في إدارة الأزمة الأمنية والإنسانية، ويزيد من الانتقادات الداخلية، سواء من المعارضة أو من بعض حلفاء نتنياهو في الحكومة.
في الختام: خطة "المدينة الإنسانية" تكشف هشاشة القرار في إسرائيل
تكشف هذه الأزمة عن عمق التوتر داخل النظام السياسي والأمني الإسرائيلي، وتعكس فشلًا في التفاهم على الأولويات في ظل وضع ميداني معقّد. وإذا استمرت هذه الفجوة بين القرار السياسي والتنفيذ العسكري، فقد تواجه إسرائيل مأزقاً استراتيجياً في إدارتها للملف في غزة، يتجاوز حدود المبادرات الإنسانية إلى صلب قدرتها على حسم الصراع أو حتى احتوائه.