الوقت - في حدث غير مسبوق في الأراضي المحتلة، وبالتزامن مع "يوم الذكرى الوطني" (يوم هازيكارون) للكيان الصهيوني، اجتاحت حرائق واسعة النطاق المناطق المحيطة بالقدس، ويُقال إنها من أكبر الحرائق في تاريخه.
انطلق الحريق، الذي بدأ يوم الأربعاء في مدينة بيت شيمش قرب القدس المحتلة، وامتد الآن إلى مناطق حضرية أخرى، وذكرت وسائل إعلام صهيونية أن النيران امتدت بسرعة إلى تلال القدس، وأن مناطق واسعة في نوڤيه شالوم، وبكوع، وتاوز، ونخشون، ولاتران قد أُخليت من سكانها، كما أُغلق الطريق السريع رقم 1، الذي يربط القدس بتل أبيب، ما أجبر السائقين على ترك سياراتهم والفرار سيرًا على الأقدام.
اضطر أكثر من 10,000 مستوطن إلى الفرار من منازلهم، ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت أن الحرائق أجبرت على إلغاء مراسم التأبين الوطنية في مدن مثل حيفا ورمات جان ونتانيا.
أصيب ما لا يقل عن 22 شخصًا حتى الآن جراء استنشاق الدخان والحروق، كما تضررت أكثر من 200 مركبة، ولحقت أضرار جسيمة بالبنية التحتية والغابات والممتلكات، وأفاد الصندوق القومي اليهودي بأن الحريق دمر 5000 هكتار من الأراضي، أي حوالي 3000 هكتار غابات، بما في ذلك ما يقرب من 70% من حدائق كندا في الضفة الغربية، ويعادل حجم الضرر حريق الكرمل عام 2010.
وعقب حريق هائل في القدس المحتلة، تم تعليق رحلات القطارات بين المدينة ومطار بن غوريون بسبب مخاوف من امتداد الحريق إلى خطوط السكك الحديدية والكهرباء.
كما نشرت وسائل الإعلام العبرية مقطع فيديو يوضح حجم الحريق، حيث أفادت بأن الحريق امتد إلى متحف المركبات المدرعة الإسرائيلي في اللطرون، بالقرب من القدس المحتلة، وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حالة الطوارئ في "إسرائيل"، وقال: "أولويتنا الآن هي الدفاع عن القدس".
تقارير متضاربة حول سبب الحريق
أفادت الشرطة الإسرائيلية بأنه لم يُعتقل سوى ثلاثة مشتبه بهم حتى الآن، ويشير التقييم الأولي الذي أجرته إدارة الإطفاء إلى أن السبب الرئيسي للحريق هو على الأرجح إهمال السياح، وليس عملاً متعمداً، وأفادت القناة 13 الإسرائيلية عن الحادث قائلةً: "أظهرت التحقيقات أنه في الساعات التي سبقت الحريق، مر عدد كبير بشكل غير معتاد من السياح بالمنطقة التي اندلع فيها الحريق.
كما أشارت إدارة الإطفاء إلى أن بعض الحرائق اللاحقة في ذلك اليوم ربما كانت مُفتعلة بشكل متعمد، كما أعلنت إدارة الإطفاء أن السبب الدقيق للحرائق لم يُحدد بعد، وأن التحقيق لا يزال في مراحله الأولى"، وبينما أشار بعض المسؤولين الإسرائيليين إلى عوامل مثل الطقس الحار والرياح الشديدة والعوامل غير الإنسانية كأسباب رئيسية للحريق، تحاول بعض وسائل الإعلام والمسؤولين الإسرائيليين إلقاء اللوم على الفلسطينيين في الحريق، وفي غضون ذلك، ادعت تالي غوتليب، عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني: "أرجوكم لا تقولوا لي إن هذا الحريق ليس هجومًا إرهابيًا، إنه حريق متعمد"، كما زعمت أن "إسرائيل" تتعرض لهجوم من أعدائها القساة.
حشد واسع للجهود
بلغت شدة الحريق ومداها حدًا دفع أكثر من 150 فرقة إطفاء، مدعومة بـ 11 طائرة وعدة مروحيات، للمشاركة في احتواء الحرائق، وأعلنت سلطات الإطفاء الإسرائيلية حالة الطوارئ القصوى، وأصدرت أمرًا بالتعبئة العامة لجميع فرق الإطفاء في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وصعّدت الظروف الجوية السيئة، بما في ذلك الرياح القوية التي تصل سرعتها إلى 65 كيلومترًا في الساعة وجفاف الهواء، من صعوبة السيطرة على الحريق، ولذلك نُشر الجيش أيضًا لإجلاء السكان والمساعدة في إخماده.
شاركت قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية أيضًا في عملية الإغاثة بإرسال أكثر من 50 شاحنة إطفاء وفريق بحث وإنقاذ، وتوفير أكثر من 300 ألف لتر من المياه.
وأرسلت مؤسسة نجمة داوود الحمراء، بصفتها المنظمة الوطنية لخدمات الطوارئ الطبية، فرقًا طبية وسيارات إسعاف لعلاج المصابين ومن يعانون من استنشاق الدخان.
كما ساعد الصندوق القومي اليهودي في احتواء الحرائق بتخصيص 5 ملايين دولار لتجهيز فرق الإطفاء في الأراضي المحتلة الشمالية، واستخدام تقنيات متطورة مثل الطائرات من دون طيار والكاميرات لمراقبة المناطق المعرضة للخطر.
ونظرًا لخطورة الحريق وعدم القدرة على احتوائه، طلبت تل أبيب المساعدة من الدول الغربية، وفي وقت لاحق، أرسلت الولايات المتحدة وإيطاليا وكرواتيا وإسبانيا وفرنسا ورومانيا وأوكرانيا ومقدونيا الشمالية وقبرص واليونان طائرات إطفاء إلى "إسرائيل".
عجز تل أبيب عن احتواء الحريق
على الرغم من التعبئة المكثفة لقوى الإنقاذ وطلبات المساعدة الدولية، لا يزال الحريق خارج السيطرة، وقد تسبب في أضرار جسيمة، لم تقتصر الأزمة على نزوح آلاف الأشخاص فحسب، بل كشفت أيضًا عن نقاط ضعف هيكلية في نظام إدارة الأزمات، ونقص في المعدات والاستعداد لمواجهة الكوارث الطبيعية، وقد أدى تأخر استجابة الحكومة إلى تأجيج السخط العام، وزاد من تقويض ثقة الجمهور بالقيادة السياسية في تل أبيب، ويعتقد العديد من الخبراء أن تركيز نتنياهو المفرط على القضايا السياسية والأمنية أدى إلى إهمال البنية التحتية الحيوية وأنظمة الاستجابة للأزمات.
هذا الحريق الهائل ليس كارثة طبيعية فحسب، بل هو أيضًا رمز للتحديات الداخلية التي يواجهها الكيان الصهيوني، يعتقد بعض المحللين أن هذه الحوادث قد تكون مؤشرًا على ضعف داخلي وضرورة مراجعة سياسات الكيان الأمنية والبيئية، إن عجز الحكومة عن السيطرة على الحرائق يُظهر بوضوح هشاشة هيكل الحكومة الإسرائيلية الحالية وعدم استقراره في مواجهة الأزمات، وقد أغرق هذا الوضع مستقبل نتنياهو السياسي في حالة من عدم اليقين، وزاد من حدة الانتقادات المحلية والدولية لأداء حكومته.
وأشار النقاد إلى قلة الاستعداد والاستجابة المتأخرة كمؤشرات على وجود مشاكل هيكلية في خدمات الطوارئ، وقد أثار هذا الوضع جدلًا حول أولويات تخصيص الموارد، ودعوات إلى زيادة الاستثمار في قدرات مكافحة الحرائق والبنية التحتية.
يأتي عجز "إسرائيل" عن احتواء الحريق في وقت خصصت فيه حكومة نتنياهو جزءًا كبيرًا من مواردها المالية لحرب غزة على مدار العامين الماضيين، ورغم مرور أكثر من 19 شهرًا على بدء الحرب، إلا أن الأهداف التي أعلنتها سلطات تل أبيب لم تتحقق بعد، إن استمرار هذه الحرب، في ظلّ مواجهة الكيان لأزمات داخلية، قد زاد من الضغط على موارده وقواته الأمنية، وقدّر الجيش الإسرائيلي تكلفة استئناف وتوسيع نطاق الحرب في قطاع غزة منذ 18 مارس/آذار بنحو 10 مليارات شيكل (ما يعادل 2.7 مليار دولار تقريبًا)، ويشير التقرير إلى أن الحرب استؤنفت بعد فترة استراحة قصيرة، ويجري حاليًا التخطيط لشنّ عملية برية واسعة النطاق؛ ما سيترتب عليه تكاليف باهظة على حكومة نتنياهو.
ونظرًا للوضع الاقتصادي غير الملائم الذي يمرّ به الاقتصاد الإسرائيلي نتيجة الصراع في غزة وعلى جبهات أخرى، فإنه مضطر إلى خفض ميزانية بعض المؤسسات، مثل أجهزة الأمن، لتعويض تكاليف الحرب، ولعلّ سلطات تل أبيب لم تتوقع وقوع كوارث طبيعية في مثل هذه الظروف، ولذلك لم تر ضرورةً لتخصيص المزيد من الميزانية لأجهزة الأمن، إلا أن هذا الحريق الهائل أثبت أن "الحوادث لا تحكي الحكاية"، لذلك، سلّطت هذه الأزمة الضوء على الحاجة إلى تخطيط أفضل واستثمار أكبر في مجال الوقاية وإدارة الأزمات، يعتقد بعض المحللين أن هذه الحرائق قد ترمز إلى انعكاس عواقب سياسات "إسرائيل" العدوانية في المنطقة، ففي حين تسعى تل أبيب إلى توسيع نفوذها في المنطقة، فإن هذه الحوادث تشير إلى الهشاشة الداخلية والتحديات الأمنية التي تواجه الكيان.
تصاعد صراع الشاباك مع نتنياهو
تحولت أزمة الحرائق فورًا إلى ساحة لتصفية الحسابات الداخلية بين الحكومة والمعارضة، نتنياهو، الذي يتعرض لانتقادات لاذعة لتهربه من مسؤولية الاختراق الأمني والفشل الذريع في عملية الـ 7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023، قد أشار بالفعل إلى تقاعس المؤسسات الأمنية، وخاصة الشاباك، من خلال عدم استباق الحريق.
في هذا الصدد، أكد نجل نتنياهو ضمنيًا احتمال أن تكون الحرائق متعمدة، واتهم الشاباك بالتقصير في أداء واجباته، تجدر الإشارة إلى أنه في الأسابيع الأخيرة، أدت الخلافات العميقة بين نتنياهو ورونين بار، رئيس جهاز الأمن الداخلي، بشأن المسؤولية عن هجوم الـ 7 من أكتوبر، إلى إجبار بار على الاستقالة من منصبه بعد مقاومة أولية، ويعتقد جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) أن مكتب نتنياهو مذنب بعملية الـ 7 من أكتوبر ويجب أن يتحمل مسؤولية هذا الفشل، لكن نتنياهو لم يتعرض للضغط بعد ويعتبر ضعف المؤسسات الأمنية وعدم كفاءتها السبب الرئيسي لعملية طوفان الأقصى.
لذلك، فإن تركيز المسؤولين السياسيين والأمنيين على تصفية الحسابات الشخصية والتهرب من المسؤوليات جعلهم ضعفاء في إدارة الشؤون والتعامل مع الأزمات، لذلك، في ظل استمرار الحرائق وتزايد الضغوط المحلية والدولية، واجهت تل أبيب أحد أكبر اختباراتها في السنوات الأخيرة.
باختصار، فإن الجمع بين الأزمات الطبيعية مثل الحرائق واسعة النطاق والأزمات السياسية والأمنية الداخلية وضع الكيان الصهيوني في وضع غير مسبوق، إن الفشل في احتواء الحرائق، واستمرار الحرب في غزة دون تحقيق أي إنجازات ملموسة، والخلافات العميقة بين نتنياهو والمؤسسات الأمنية، كلها تشير إلى أزمة متعددة الجوانب تتطلب مراجعة جذرية لسياسات "إسرائيل" وأساليب إدارتها.