الوقت- منذ اندلاع الحرب الأخيرة على قطاع غزة، تصاعدت الضغوط السياسية والإعلامية على حركة حماس باعتبارها الفاعل الأساسي في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وفي خضم هذه الضغوط برزت معلومات جديدة كشفتها الأخبار وغيرها من المنصات الإعلامية، حول محاولات سعودية وتركية لإرغام الحركة على القبول بالشروط الإسرائيلية تحت لافتة إنهاء الحرب وإعادة الإعمار، هذه الأنباء أثارت نقاشاً واسعاً داخل الأوساط الفلسطينية والعربية، إذ يرى كثيرون أن مثل هذه الضغوط تمثل انحيازاً إلى الموقف الإسرائيلي على حساب المقاومة الفلسطينية وحقوق الشعب في مواجهة العدوان والحصار.
الوقائع تشير إلى أن السعودية وتركيا مارستا خلال الأسابيع الماضية ضغوطاً غير معلنة على قيادة حماس، ووفق ما نشرته الأخبار فإن هذه الضغوط انسجمت مع التوجه الغربي الرامي إلى إنهاء الحرب بأي ثمن، حتى وإن كان ذلك على حساب جوهر القضية الفلسطينية، تركيا على وجه الخصوص أظهرت حرصاً على تحييد موانئها من أي نشاط شعبي أو مدني لنصرة غزة، في خطوة اعتُبرت بمثابة تقييد متعمد لأي تحرك يهدف إلى كسر الحصار، أما السعودية، فقد انخرطت في قنوات دبلوماسية مع الولايات المتحدة وأطراف أوروبية للضغط على حماس كي تقبل بصيغة تعني عملياً تفكيك جناحها العسكري والانسحاب من إدارة القطاع، مقابل وعود غامضة تتعلق بإعادة الإعمار أو إدخال مساعدات إنسانية محدودة.
المواقف الدولية والإقليمية بدت متشابكة. فقد نقلت نيويورك بوست أن السعودية وقطر ومصر انضمت إلى المطالب الغربية التي تدعو حماس إلى التخلي عن السلاح والخروج من غزة لمصلحة تسوية سياسية تتولاها السلطة الفلسطينية تحت رعاية الأمم المتحدة، مثل هذه الدعوات، وإن رُوّج لها باعتبارها مقدمة لسلام طويل الأمد، تعكس في واقعها محاولة لتصفية المقاومة وتجريد الشعب الفلسطيني من أحد أبرز أدواته في مواجهة الاحتلال، هذه الضغوط تتجاهل حقيقة أن الحرب القائمة ليست نتيجة وجود حماس، بل هي نتيجة استمرار الاحتلال ورفض "إسرائيل" لأي تسوية عادلة تقوم على إنهاء الحصار ووقف الاستيطان وضمان حق العودة.
من المهم التذكير بأن جذور هذه المواجهة تعود إلى ما قبل الهجوم الكبير الذي نفذته حماس في السابع من أكتوبر 2023، وثائق إسرائيلية كشفت لاحقاً أن الهجوم جاء في سياق رفض الحركة لصفقة تطبيع كانت تُطبخ بين السعودية و"إسرائيل" برعاية أمريكية، بعبارة أخرى، فإن ما حدث لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل كان رسالة سياسية واضحة برفض تحويل القضية الفلسطينية إلى مجرد ورقة ثانوية في صفقات التطبيع الإقليمي، غير أن المواقف الراهنة تعكس مفارقة مؤلمة، إذ إن الدول ذاتها التي كانت حماس تحاول منعها من التنازل أمام "إسرائيل"، هي نفسها التي تضغط اليوم عليها للقبول بالشروط الإسرائيلية، وكأن دماء آلاف الشهداء في غزة يمكن تجاوزها من أجل مسار سياسي لا يحمل ضمانات حقيقية.
على الجانب التركي، بدا التوجه أكثر وضوحاً، فأنقرة التي استضافت قيادات من حماس في فترات سابقة وأظهرت تعاطفاً سياسياً وشعبياً مع غزة، دخلت الآن في مسار اقتصادي وسياسي يهدف إلى تقليص الاحتكاك مع "إسرائيل"، فقد تم تعليق بعض أوجه التجارة، وأُعيد ضبط الموانئ، في وقت كان الشعب الفلسطيني يتوقع أن يكون الدعم التركي أوسع وأكثر قوة، هذا التراجع التركي يعكس رغبة الحكومة في الحفاظ على مصالحها الإقليمية والدولية، وخصوصاً مع تصاعد الضغوط الاقتصادية الداخلية، لكنه في الوقت ذاته شكّل خيبة أمل كبيرة لدى أنصار المقاومة.
أما السعودية، فقد ركزت خطابها العلني على الجوانب الإنسانية، مثل مطالبتها في مارس الماضي للمجتمع الدولي بالضغط على "إسرائيل" لإعادة الكهرباء إلى غزة دون شروط، غير أن هذا الموقف، وإن بدا متعاطفاً، لم يتجاوز حدود التصريحات الإعلامية ولم يترجم إلى دعم فعلي للمقاومة أو خطوات عملية لكسر الحصار، بل إن المسار الدبلوماسي السعودي يتركز اليوم على تعزيز مكانة السلطة الفلسطينية على حساب حماس، في إطار إعادة تفعيل خيار حل الدولتين الذي تراه الرياض أكثر انسجاماً مع مصالحها الإقليمية وعلاقاتها الاستراتيجية بالولايات المتحدة.
هذه التحولات تطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل المقاومة الفلسطينية وموقعها في المعادلة الإقليمية، من الواضح أن القوى الدولية والإقليمية تسعى إلى فرض صيغة جديدة تعيد رسم المشهد في غزة، بحيث يتم استبعاد حماس أو تقليص نفوذها، هذا التوجه يلقى دعماً من بعض الأوساط العربية التي ترى أن استمرار وجود حماس مسلحاً يعرقل مسارات التسوية ويضعف مكانة السلطة الفلسطينية، لكن الواقع على الأرض يؤكد أن حماس، رغم كل الضغوط، لا تزال تمتلك قاعدة جماهيرية واسعة داخل القطاع وخارجه، وأن محاولات تجاوزها أو فرض بدائل مصطنعة لن تنجح في تحقيق الاستقرار.
من ناحية تحليلية، يمكن القول إن الضغوط السعودية والتركية تعكس تحولاً في أولويات هاتين الدولتين، فبينما كانتا تتبنيان خطاباً داعماً للقضية الفلسطينية، بات تركيزهما اليوم على مصالح إقليمية أوسع تتعلق بالاقتصاد والتحالفات الدولية والعلاقات مع الولايات المتحدة، غير أن هذا التحول يحمل مخاطر كبيرة، إذ إنه يضعف الموقف العربي الموحد، ويمنح "إسرائيل" فرصة لتفكيك جبهة الدعم للمقاومة، ويحول القضية الفلسطينية إلى ورقة تفاوضية هامشية بدل أن تبقى قضية مركزية.
بالنسبة للشعب الفلسطيني في غزة، فإن هذه الضغوط تمثل تهديداً مضاعفاً، فإلى جانب العدوان العسكري المستمر والحصار الخانق، يجد أهل القطاع أنفسهم اليوم أمام محاولات سياسية لعزل المقاومة وفرض حلول لا تلبي الحد الأدنى من تطلعاتهم، وهذا الواقع يزيد من معاناتهم ويجعلهم أكثر تمسكاً بخيار المقاومة، باعتباره السبيل الوحيد لانتزاع الحقوق، التجارب السابقة تؤكد أن أي اتفاقات لا تأخذ في الاعتبار إرادة الشعب الفلسطيني سرعان ما تنهار وتفقد شرعيتها، كما حدث مع اتفاق أوسلو الذي لم يحقق أي تقدم ملموس بل فتح المجال لمزيد من الاستيطان والعدوان.
الخلاصة أن الضغوط التي تمارسها السعودية وتركيا على حماس ليست سوى جزء من مسار دولي أشمل يهدف إلى إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة على حساب غزة والمقاومة، هذا المسار قد يحقق بعض المكاسب المؤقتة للدول الكبرى والدول الإقليمية، لكنه لن ينجح في القضاء على إرادة الفلسطينيين، بل على العكس، فإن محاولات فرض حلول قسرية قد تؤدي إلى مزيد من التعقيد وإطالة أمد الصراع، المقاومة الفلسطينية أثبتت مراراً أنها قادرة على الصمود، وأنها رغم كل الضغوط لن تقبل بالتنازل عن حقوق أساسية كرفع الحصار وحق العودة وتحرير الأسرى.
الرأي الأقرب إلى الواقع هو أن أي سلام حقيقي لا يمكن أن يقوم على إقصاء حماس أو محاصرة غزة سياسياً، بل على العكس، فإن إشراك المقاومة وضمان حقوق الشعب هو السبيل الوحيد لتسوية عادلة، أما الضغوط الخارجية فهي تعكس محاولة لتكرار أخطاء الماضي وإعادة إنتاج أوهام التسوية التي تجاهلت لعقود حقيقة أن الاحتلال هو أصل المشكلة.