الوقت- في ظل النزاعات المستمرة التي تعصف بالشرق الأوسط، تتكشف بين الحين والآخر وقائع صادمة تتعلق باستخدام أسلحة محرمة دوليًا ضد المدنيين، ومن أبرز هذه الوقائع ما كشفه مؤخرًا مركز يمني مختص بتوثيق آثار القنابل، حيث أكد استخدام قنبلة أمريكية من طراز GBU-39 JDAM في هجوم استهدف مركز احتجاز للمهاجرين في محافظة صعدة، شمال اليمن، هذا الاستخدام لا يثير فقط تساؤلات قانونية وأخلاقية، بل يفتح بابًا واسعًا لمناقشة أعمق حول تأثيرات مثل هذه الأسلحة على البيئة، الصحة العامة، ومستقبل السلم الدولي.
القنبلة GBU-39 JDAM تكنولوجيا الدقة ودموية الاستخدام
قنبلة GBU-39 JDAM هي سلاح موجه فائق الدقة، صممته الولايات المتحدة لاختراق التحصينات العسكرية، وهي جزء من مشروع طويل لتطوير أسلحة دقيقة تقلل الخسائر الجانبية في المعارك التقليدية، لكن ما يحدث على أرض الواقع – كما في الحالة اليمنية – يُظهر مفارقة مخيفة، إذ تُستخدم هذه القنابل الدقيقة ضد أهداف مدنية لا علاقة لها بالمواجهات المسلحة، مثل مراكز إيواء المهاجرين.
القنبلة مزوّدة بنظام توجيه عبر الأقمار الصناعية(GPS)، وتتمتع بقدرة تفجيرية هائلة وحرارة انفجار تصل إلى 3500 درجة مئوية، ما يعني أنها لا تدمّر الهدف فحسب، بل تترك آثارًا حرارية وموجات صدمية كارثية تمتد إلى محيط واسع، وتكمن الخطورة الأكبر في استخدامها ضد تجمعات سكانية أو منشآت غير عسكرية، ما يُعد انتهاكًا مباشرًا لبنود اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني.
أبعاد قانونية.. خرق صريح للقانون الدولي
وفقًا للاتفاقيات الدولية، وخاصة اتفاقية لاهاي واتفاقية جنيف، فإن استخدام أسلحة محرمة أو مفرطة القوة ضد المدنيين يُعد جريمة حرب، استخدام قنابل من نوع GBU-39 JDAM في قصف مركز احتجاز مدني لا يملك أي صفة عسكرية، يُشكل خرقًا صريحًا لهذه الاتفاقيات، كما أن هذا الهجوم يمكن أن يُدرج في إطار "الاعتداءات العشوائية" التي لا تميز بين الأهداف العسكرية والمدنية، وهي من أبشع أنواع الجرائم في سياق النزاعات المسلحة.
من جهة أخرى، فإن مسؤولية استخدام هذه الأسلحة لا تقتصر فقط على الدولة التي ألقتها، بل تمتد إلى الدول المصنّعة والمصدّرة لها، وخاصة إذا توافرت أدلة على علمها المسبق بإمكانية استخدام هذه الأسلحة في انتهاكات حقوق الإنسان.
الآثار الصحية والبيئية.. كارثة تمتد لأجيال
لا تنتهي مآسي الحروب عند الدمار المادي، فالاستخدام المتكرر للقنابل ذات الطاقة الحرارية العالية، مثل GBU-39، يتسبب في تداعيات صحية مرعبة، أبرزها تفشي أمراض السرطان بين السكان، وازدياد معدلات ولادة أطفال مشوهين أو موتى، وتشير تقارير طبية محلية في اليمن إلى أن هذه الظواهر بدأت في الازدياد، ما يعزز الشكوك حول ارتباطها باستخدام أسلحة محرمة، من الناحية البيئية، فإن الحرارة الشديدة الناتجة عن الانفجار، وما ينتج عنها من تفاعلات كيميائية في التربة والهواء، تُحدث تغيرات دائمة في النظام البيئي للمنطقة، كما أن البقايا المشعة أو الملوثة التي تتركها مثل هذه القنابل قد تلوث مصادر المياه الجوفية، وتؤثر سلبًا على الزراعة والثروة الحيوانية، ما يزيد من تعقيد الأزمة الإنسانية في اليمن.
البعد الإنساني.. تسييس المعاناة
يُعد اليمن اليوم أحد أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم، ومع ذلك، فإن الاستخدام المتعمد لأسلحة فتاكة ضد المدنيين يعكس غيابًا تامًا للضمير الإنساني، إن استهداف مركز احتجاز للمهاجرين الأفارقة لا يمكن تبريره تحت أي ذريعة عسكرية، بل هو رسالة دامغة على تسييس المعاناة واستخدام السلاح كأداة لترويع المدنيين وفرض الإذعان، والمقلق أكثر هو صمت المجتمع الدولي، أو الاكتفاء بإصدار بيانات إدانة غير ملزمة، إن التهاون في محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم يُشجع على تكرارها، ويقوض مبادئ العدالة الدولية.
دور الإعلام والمجتمع المدني
في ظل التعتيم الإعلامي عن الجرائم الأمريكية في اليمن، يصبح توثيق مثل هذه الجرائم مسؤولية كبيرة على عاتق المجتمع المدني المحلي، والمبادرة التي أطلقها المركز اليمني المختص بالقنابل تُعد خطوة مهمة لكسر الصمت وتسليط الضوء على حجم الكارثة، لكن هذا غير كافٍ إذا لم تتبعه تحركات دولية فعلية، سواء في أروقة مجلس الأمن أو من خلال تفعيل آليات المحكمة الجنائية الدولية.
أمريكا... راعية الإرهاب الحقيقي
لقد دأبت الولايات المتحدة الأمريكية على الترويج لنفسها كمدافع عن "حقوق الإنسان" و"السلام العالمي"، بينما هي في الحقيقة أكبر مروّج للإرهاب المنظم على وجه الأرض، ما جرى في صعدة من استخدام لقنبلة GBU-39 JDAM ضد مركز لاحتجاز مهاجرين أفارقة ليس سوى نقطة في بحر من جرائم الحرب التي ارتكبتها واشنطن وأذرعها في الشرق الأوسط، كيف يمكن لدولة تدّعي التحضر والالتزام بالقانون الدولي أن تزوّد حلفاءها بأسلحة دمار شامل تُستخدم لتمزيق أجساد المدنيين وحرقهم أحياء؟
هذه ليست مجرد عملية "استهداف خاطئ"، بل هي رسالة دموية واضحة بأن حياة الأبرياء لا قيمة لها أمام أجندات المصالح الأمريكية، أمريكا لا تصدر سوى الموت، تصدر الطائرات القاتلة، وتوقع صفقات السلاح، ثم تذرف دموع التماسيح في المحافل الدولية، إن من يبيع أدوات القتل، ثم يغضّ الطرف عن استخدامها ضد المدنيين، هو شريك كامل في الجريمة.
لم تعد واشنطن مجرّد دولة تتدخل عسكريًا، بل أصبحت ماكينة قتل تدوس فوق القوانين والأعراف الدولية دون أدنى محاسبة، ومثل هذه الأفعال تثبت أن الولايات المتحدة ليست حامية للسلام، بل هي العدو الأول له، صعدة كانت الضحية، وغدًا ستكون مدن أخرى، ما دامت أمريكا فوق القانون، وما دامت الشعوب تُذبح باسم "الشرعية" و"مكافحة الإرهاب".
متى يُحاسب الجلاد الأمريكي؟
في كل مرة يُكشف فيها عن جريمة حرب جديدة تُرتكب في اليمن، نجد أصابع الاتهام تشير مباشرة إلى السلاح الأمريكي، والدعم السياسي الأمريكي، والضوء الأخضر الأمريكي، ولكن السؤال الذي يُطرح بإلحاح: متى يُحاسب الجلاد؟ إلى متى سيظل القاتل متخفيًا خلف شعارات "الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" وهو يزرع الخراب والموت في أوطان الآخرين؟
أمريكا فاعل أساسي، ومدبر رئيسي لجرائم الحرب التي ترتكب يوميًا في اليمن، لقد آن الأوان لكسر هذا الصمت العالمي المريب، ولتحميل الولايات المتحدة مسؤولية ما تفعله بحق شعوب بأكملها، إنها تُمارس القتل عن بُعد، وتغلف جرائمها بغلاف من الكلمات المنمقة في أروقة مجلس الأمن، فيما الحقيقة على الأرض تقول شيئًا آخر: أمريكا دولة مارقة، تصنع الخراب وتتهرّب من العقاب، صعدة جرح مفتوح، لكنها ليست النهاية، وإذا استمر الإفلات من العقاب، فإن العالم بأسره سيدفع ثمن صمته، وستتكرر المجازر، بأسماء مختلفة، لكن بالسلاح نفسه... السلاح الأمريكي.
في النهاية، تكشف حادثة استخدام القنبلة الأمريكية GBU-39 JDAM في اليمن عن أحد أكثر أوجه الحرب ظلمة، فحين تتحول الأسلحة الذكية إلى أدوات لقتل الأبرياء، وتُدفن الحقيقة تحت ركام الصمت الدولي، تصبح الحاجة ملحّة لوقفة ضمير جماعية تُعيد الاعتبار للعدالة والإنسانية، وما لم يتم اتخاذ خطوات حاسمة اليوم، فإن التاريخ لن يرحم من سكت عن الجرائم أو تواطأ في ارتكابها.