الوقت_ أثار قرار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الأخير إنشاء مقبرة الخالدين غضب الذين ساءتهم عمليات هدم المقابر التاريخية في العاصمة القاهرة، فيما طرح المصريون أسئلة واستفسارات كثيرة فرضت نفسها في الأيام الماضية، وتفاوتت الإجابات عنها بشكل كبير وسط جدل صاخب أثارته تلك القضية، وخاصة في ظل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مصر، بما في ذلك حق الحياة، وعدم التعرض للتعذيب، وحرية الفكر والتعبير والتجمع، وحرية تكوين الجمعيات، رغم أن القليل من النقاد والسياسيين اعتبروا هذا الإجراء خطوة إيجابية للديكتاتوريّة، التي يرأسها الجنرال عبد الفتاح السيسي، حيث تعاني دول "العالم الثالث "من ضعف شديد لحقوق الإنسان فيها، ورغم انضمام الكثير من تلك الدول للمعاهدات الدوليّة، إلا أنّ ذلك يعتبر انضماماً شكليّاً ولا يتم العمل ببنود تلك المعاهدات، وتعاني مصر باعتبارها من تلك الدول من هذه الانتهاكات بالأخص منذ وصول نظام السيسي للحكم عام 2013، لاستخدامه كل أساليب قمع المعارضة وإسكات جميع أطيافها، وهو معروف بسجن الآلاف من المعتقلين السياسيين، ولكن الغالبية من المشككين قالوا إنّ الأمر مجرد خداع، مؤكدين أنّ القرار الأخير هو عبارة عن محاولة لتهدئة الشارع المصري من قبل الحكومة المصريّة.
استراتيجيّة الانتهاك
نشر النظام المصري تقريراً يدعى “الاستراتيجيّة الوطنيّة لحقوق الإنسان” قبل فترة، لكنّ الأموات يعانون كما الأحياء في مصر عقب توجيه الرئيس عبد الفتاح السيسي لإنشاء مقبرة الخالدين لرفات عظماء الجمهورية المصرية، تكريمًا للراحلين وتمكينًا للتخطيط العمراني من ألا يصطدم برموز مصر، وهنا يكمن الخلل الذي يدركه الشعب المصري جيداً، فالانتهاك، هو الاستراتيجية الوحيدة للنظام المصري فيما يتعلق بحقوق الإنسان، كيف لا؟ ونظام السيسي الذي ارتكب أكبر مجزرة للمحتجين في التاريخ الحديث، كما تقول منظمات حقوق الإنسان، ومنع الاحتجاجات عامّة، وحجب مئات المواقع الإخبارية والمنظمات الحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني، وسجن عشرات الآلاف بعد سيطرته على الحكم، وأمر بحملات قمعيّة واسعة النطاق، ووصفه الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، بشكل صريح بـ "الدكتاتور المفضل"، كيف له أن يرحم الأموات في وقت يعاني الأحياء من شتى أنواع التعذيب على أكثر من صعيد.
وفي ظل عاصفة الجدل التي أثارها نبأ هدم المقابر التاريخية وجبانات المشاهير، يوجد تفاوت كبير في نظرة المصريين لقرار الرئيس السيسي بالبدء في إنشاء (مقبرة الخالدين)، والتي ليس من الضروري أن تكون في منطقة واحدة ويمكن تصنيفها لمجموعات في أماكن مختلفة وفقاً لمصادر غير حكومية، بيد أن عدداً لا بأس به من المراقبين للوضع المصريّ يعتبرون ذلك انتهاكاً جسيماً لحقوق "عظماء مصر الراحلين"، ويستندون في ذلك إلى تراجع حقوق الإنسان في البلاد تحت حكم السيسي، واستمرار قانون التظاهر الاستبداديّ وحملات الاعتقال الواسعة للناشطين السياسيين ومحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكريّة، إضافة إلى القلق الدوليّ العارم من انتهاك الحريات في مصر وبالأخص مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، حيث تصدر الحكومة المصرية الإدانات والأحكام من قبل واحدة من خمس محاكم طوارئ تمت الموافقة عليها بموجب حالة الطوارئ في مصر، وهذه المؤسسات بالطبع تفتقر إلى الحماية الإجرائيّة العادية للمتهمين، وتلجأ القاهرة إلى قوانين مكافحة الإرهاب لتكميم أفواه المعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين، وإبقاء المنتقدين في الحبس الاحتياطي إلى أجل غير مسمى، دون أي اعتبار للرسائل التي وجهتها دول ومنظمات للسلطات المصرية مفادها بأنّه "لا يمكن غضَ الطرف بعد الآن عن حملات النظام المصريّ لسحق المعارضة السلميّة".
ملاحقة الأموات
بالاستناد إلى القرار الأخير، لا يوفر ناشطو حقوق الإنسان قراراُ رئاسيّاً واحداً للتذكير بحقوق الانسان المنتهكة من قبل الحكومة المصرية، بقولهم: "حتى الأموات لم يفروا من عذاب السيسي"، حيث استمرت السلطات المصرية باتخاذ الإجراءات التي تناقض القانون الدولي، وأبقت على الآلاف من الرجال والنساء المحتجزين بشكل تعسفي داخل سجونها، ولم تقدم أي حماية للمحتجزين من التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة، وواصلت بشكل خطير قمع النشاط السلمي في البلاد، كما أن السيسي أنهى حالة الطوارئ في 25 أكتوبر/ تشرين الأول بشكل جزئيّ كامتياز للولايات المتحدة، ولكن بموجب القانون المصريّ استمرت المحاكمات التي كانت قد بدأت قبل ذلك التاريخ، كما تم جلب 48 متهماً للمحاكمة في محاكم الطوارئ قبل فترة وجيزة من انتهاء حالة الطوارئ، ما يعني أنّ التقدم الوحيد الذي تم إحرازه في الجمهوريّة المصريّة هو "معاملة أخف عقابية" لأشخاص من المفترض ألا يتعرضوا لأيّ مساءلة قانونية في الأساس.
ومن المتوقع حسب محللين أن تضم المقبرة شيوخ القضاة والحاصلين على جوائز الدولة التقديرية والضباط الأحرار مع الرموز السياسية والفكرية، دون الحديث عن أي موضوعية في اختيار الفترة الزمنية والرموز الوطنية، فيما تغيب وجهة النظر المخالفة لقرار الرئيس عن الإعلام المصريّ، وهذا طبيعيّ للغاية بعد أن منع النظام المصريّ أيّ تغطية إعلاميّة تختلف عن روايته الرسميّة غير الموثوقة بشأن القضية، حتى أنّ السلطات اعتقلت كثيرين ممن عبَّروا عن قلقهم بشأن قضايا مشابهة، وواصلت فرض قيود شديدة على حرية تكوين الجمعيات أو الانضمام إليها فيما يتعلق بمنظمات حقوق الإنسان والأحزاب السياسية، واستخدمت قوات الأمن المصريّة العنف والقوة بشكل مؤسف لتفريق مظاهرات نادرة الحدوث، واحتجزت بشكل تعسفيّ المئات من المتظاهرين والمارة على ذمة التحقيق في تهم تتعلق بـ "الإرهاب" والتظاهر لفترات طويلة، وبينهم مدافعون عن حقوق الإنسان وصحفيون وسياسيون ومحامون ومؤثِّرون على وسائل التواصل الاجتماعيّ.
"إن التاريخ وكل الأجيال القادمة من هذه الأمة العظيمة لن تغفر، جريمة هدم أي أثر من آثارها"، عبارة جاءت على لسان الخبير الاقتصادى أحمد السيد النجار رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام السابق، الذي قال وفقاً لمواقع إخباريّة:“البعض يقول إنها مجرد مقابر، وهذا جهل مروع فأعظم آثار العالم القديم هي مقابر وأهمها على الإطلاق مقابر وادي الملوك والملكات والنبلاء في الأقصر، ورغم رفضي المطلق للمساس بمقابر الرموز الوطنية الكبرى في العصر الحديث وللمقابر التي أصبحت في حكم الآثار أو المصنفة كذلك بالفعل، إلا أنه حتى في حالة احتياج الدولة للأرض المقامة عليها يجب أن يتم نقلها كما هي إلى مكان جديد وليس هدمها بفعل جاهل جهول، معبدا أبو سمبل نحتا في الصخر ولم يتم بناؤهما وكانت عملية نقلهما في غاية الصعوبة لأنها تتطلب تفكيك الجبل وإعادة تركيبه، لكن الدولة المؤمنة بالهوية الحضارية لمصر وبشخصيتها التي تنطق بها شواهدها الأثرية العظمى استنهضت همم العالم ووفرت التمويل ونقلت المعبدين في معجزة هندسية لا تقل عن معجزة بنائهما".
في النهاية، يطالب المصريون بوقف هدم المقابر التاريخية المصنفة كآثار، وتغيير مسارات الطرق والجسور، أو نقلها احتراما لقيم الراحلين وقيمة ودلالة الآثار، رغم أن الهدم يتم منذ أكثر من شهر، ونال من معظم تلك المقابر، واندثرت معالمها وزخارفها ونقوشها التاريخية المعبرة ، ناهيك عن حُرمة رفات أصحابها التي انتُهِكت بالفعل من قبل الحكومة المصرية التي لم تدرس الأمر بشكل جيد قط، ولو أنها استشارت –على الأقل- المتخصصين لكانت المنطقة بأسرها تحاط بأسوار وتحول إلى متحف سياحى مفتوح، وتتم معالجة مشاكل المرور بطرق هندسية أخرى بعيدة عن هدم المعالم الأثرية، وكان من الممكن عمل تحويلات مرورية و"كبارى" في مناطق بعيدة عنها وقبل الوصول إلى تلك المنطقة، لتصب فى المقطم والاتوستراد وصلاح سالم، حسب مختصين.