الوقت- لقد خطت واشنطن، بعد تعيينها مبعوثاً خاصاً لشؤون العراق، خطوةً أخرى لتعزيز وجودها في هذا البلد، فأزاحت الستار يوم الأربعاء الموافق للثالث من ديسمبر 2025، عن مشروعها الدبلوماسي الأضخم، قنصلية أربيل، التي تمتد على رقعة مترامية الأطراف، تبلغ مساحتها مئتين وستة آلاف متر مربع.
هذا المقر، الذي يوصف بأنه أشبه بمدينة صغيرة مكتفية ذاتياً، يجمع تحت سقفه موظفي سبع وزارات وهيئات حكومية أمريكية، وقد تجاوزت تكلفته ثمانمئة مليون دولار منذ وضع حجر أساسه في يوليو 2018. وبهذا، يتجاوز المشروع حدود الدور التقليدي للقنصليات، ليصبح مركزاً متكاملاً للعمليات السياسية والأمنية والاقتصادية.
أعلنت الولايات المتحدة، صراحةً، أن هذا المشروع ليس إلا منصة استراتيجية لإدارة مصالحها في المنطقة، معززةً حضورها في إقليم كردستان والعراق على المدى الطويل. وفي حفل الافتتاح، أكد نائب وزير الخارجية الأمريكي، مايكل ريجاس، أن إقليم كردستان يشكّل شريكاً أمنياً محورياً وركناً راسخاً في العلاقات بين واشنطن وبغداد. وأشار إلى أن القنصلية ستعمل على توسيع المصالح الأمريكية، وتعزيز الاستثمارات في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا، فضلاً عن حماية الأقليات الدينية والعرقية، في تجلٍ واضح لأبعاد التعاون الاستراتيجي بين الطرفين.
أما رئيس إقليم كردستان، نيجيرفان بارزاني، فقد وصف افتتاح القنصلية بأنه “رسالة سياسية بليغة”، تعكس عمق التعاون التاريخي مع الولايات المتحدة. كما أضاف رئيس وزراء الإقليم، مسرور بارزاني، أن هذه القنصلية بمثابة “صخرة شامخة كجبال كردستان”، مشيداً بدخول العلاقات مع واشنطن مرحلةً جديدةً من البناء والتنمية.
قلق بغداد: ظلال الماضي وشكوك الحاضر
وفي بغداد، حيث تتراكم ذكريات الاحتلال الأمريكي عام 2003، تقف شريحة واسعة من الشعب والنخب السياسية موقف الحذر من هذه الخطوة. فالماضي القريب حافل بتجارب أليمة، إذ لم يجلب الوجود الأمريكي الأمن والاستقرار، بل كان شاهداً على تفشي الإرهاب، وانهيار البنى التحتية، واهتزاز ركائز السياسة. هذه المآسي جعلت الثقة في نوايا واشنطن تتهاوى إلى أدنى مستوياتها، وأثارت تساؤلات عميقة حول الأهداف غير المعلنة التي تقف خلف هذا المشروع الضخم.
ويرى بعض المحللين أن هذه القنصلية العملاقة، بما تحتويه من تجهيزات متقدمة، قد تكون نواةً لتحل محل السفارة الأمريكية في بغداد في المستقبل، خاصةً إذا قررت واشنطن تقليص أنشطتها الدبلوماسية في العاصمة، متذرعةً بالاعتبارات الأمنية. وإذا ما تحقق هذا السيناريو، فإن الهيمنة الدبلوماسية الأمريكية ستنتقل تدريجياً إلى أربيل، مما سيؤثر على وحدة العراق الوطنية وتماسكه الجغرافي، وسيمنح واشنطن يداً أطول للتأثير في سياسات الحكومة المركزية، لا سيما إذا ما تبنت بغداد، في مقبل الأيام، مواقف تتعارض مع الاستراتيجيات الأمريكية.
كردستان: بوابة النفوذ الأمريكي الجديد
منذ انسحاب قواتها رسمياً من العراق عام 2011، ومع تنامي نفوذ قوى المقاومة التي قلّصت الهيمنة الأمريكية التقليدية، تسعى واشنطن جاهدةً لإعادة ترسيخ أقدامها في العراق من خلال بوابة كردستان. فهذا الإقليم، بما يتمتع به من موقع جيوسياسي فريد، واستقرار نسبي، وموارد اقتصادية واعدة، يمثّل ساحةً مثاليةً لتثبيت النفوذ الأمريكي وإعادة الانتشار في المنطقة.
وفي هذا السياق، كتب البروفيسور العراقي جاسم يونس الحريري، في إحدى الصحف، قائلاً: “إن الهدف الحقيقي من هذا المشروع الضخم هو إنشاء قاعدة مركزية لإدارة العمليات السياسية والأمنية والاقتصادية في الإقليم، مما يعكس عزم واشنطن على ترسيخ وجودها الطويل الأمد في كردستان، بل وفي العراق بأسره”.
المخاوف المتزايدة: قلق المقاومة وحذر الشعب
وبينما تتسارع وتيرة التحركات الأمريكية، تتزايد المخاوف في الأوساط الشعبية والسياسية العراقية من أن تكون هذه القنصلية مقدمةً لسيناريو جديد من التغلغل الأمريكي. فقد شهدت السنوات الأخيرة نقل القوات العسكرية الأمريكية تدريجياً إلى كردستان، في محاولة لتخفيف الاحتقان الشعبي، وإبعاد هذه القوات عن متناول الفصائل المقاومة. والآن، يخشى كثيرون أن يتكرر هذا السيناريو على الصعيد الدبلوماسي، بحيث تصبح أربيل مركزاً رئيسياً للبعثات الأمريكية، مع انتقال السفارة تدريجياً من بغداد إلى الإقليم.
إن المساحة الشاسعة للقنصلية، وما تحتويه من إمكانات فائقة، تتيح لواشنطن تنفيذ مشاريع أمنية واستخباراتية تحت غطاء العمل الدبلوماسي، مما يُهيئ الأرضية لتنفيذ خطط لم تكتمل بعد، سواء في العراق أو في المنطقة برمتها. ويرى محللون أن هذا التمركز في أربيل قد يكون خطوةً حاسمةً لإعادة صياغة النفوذ الأمريكي، وفرض هيمنة جديدة تتجاوز حدود العراق إلى جواره الإقليمي.
إنّ تحويل هذه القنصلية تدريجيًا إلى مركز رئيسي للتفاعلات الأمريكية مع العراق، قد يُفضي إلى تغييرات جذرية في بنية النظام السياسي للبلاد، ويوفّر لواشنطن فرصةً للتأثير العميق على الوحدة الوطنية، والانسجام الجغرافي، والسياسات العامة التي تنتهجها الحكومة المركزية. وتتضاعف أهمية هذا المسعى إذا ما انتهجت حكومة بغداد في السنوات القادمة مسارًا يتعارض مع التوجهات الأمريكية.
فمنذ انسحاب القوات الأمريكية رسميًا من العراق عام 2011، وصعود قوى المقاومة التي أوجدت واقعًا سياسيًا وأمنيًا جديدًا في البلاد، خسرت واشنطن جزءًا كبيرًا من نفوذها التقليدي. هذا التراجع دفعها إلى البحث عن مسارات جديدة لترسيخ وجودها في العراق، وهو ما يرى المراقبون أنه لا يمكن تحقيقه في الظروف الحالية إلا عبر إقليم كردستان، الذي يُعدّ من الناحية الجيوسياسية والسياسية والاقتصادية بوابةً مثلى لإعادة النفوذ الأمريكي.
وفي هذا السياق، كتب الأستاذ “جاسم يونس الحريري”، الخبير العراقي في العلوم السياسية، في صحيفة رأي اليوم: “إنّ الهدف الأسمى لواشنطن من هذا المشروع هو تأسيس قاعدة محورية لإدارة العمليات السياسية والأمنية والاقتصادية في الإقليم، قاعدة تُجسّد تصميم أمريكا على ترسيخ وجودها طويل الأمد في كردستان، بل وفي عموم العراق”.
سيناريوهات القلق العراقي
ومع الانتشار التدريجي للقوات الأمريكية في الإقليم خلال السنوات الأخيرة، وبهدف تقليل حساسية الرأي العام وتوفير غطاء أمني لهذه القوات عبر إبعادها عن مرمى قوى المقاومة، تزداد المخاوف العراقية من أن يتكرر هذا السيناريو في المجال الدبلوماسي. إذ يخشى العراقيون من أن تتحوّل السفارة الأمريكية وموظفوها تدريجيًا إلى أربيل، خاصّةً أن القنصلية، بما تمتلكه من مساحات شاسعة وإمكانات متطورة، تتيح لواشنطن استقدام المزيد من القوات وتنفيذ مشاريع أمنية مختلفة.
ويرى المحللون أن تركيز القوات الأمنية والدبلوماسية في أربيل قد يُمهّد الطريق لتنفيذ المشاريع الأمريكية غير المكتملة في العراق والمنطقة. فالقنصلية الأمريكية في أربيل، التي تقع في موقع حساس مجاور لإيران وتركيا وحتى سوريا، لن تقتصر على منح التأشيرات، بل يُرجّح أن تتحوّل إلى مركز تنسيق للأنشطة الاستخباراتية ودعم العمليات اللوجستية في المنطقة.
واشنطن وضغوطها على بغداد
إنّ الولايات المتحدة، التي اعتادت استغلال حالة عدم الاستقرار في العراق لتحقيق غاياتها الأمنية والسياسية، تسعى من خلال افتتاح قنصليتها في أربيل إلى استثمار الانقسامات السياسية الداخلية لصالحها. فتركيز واشنطن على أربيل وتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي والأمني في الإقليم، يُعدّ أداة ضغط إضافية على الحكومة المركزية في بغداد.
هذا التوجه يُضعف من شرعية الحكم الفيدرالي، ويكشف عن تجاهل واشنطن لدور بغداد في صياغة السياسات الكبرى للدولة. ومن شأنه أيضًا أن يعمّق الخلافات التاريخية بين بغداد وأربيل، سواء في ما يتعلق بالمناطق المتنازع عليها، أو إدارة الموارد النفطية والغازية، أو توزيع الميزانية الاتحادية، ما يضع العراق في حالة من الهشاشة والاضطراب.
ولا شك أن افتتاح أكبر قنصلية أمريكية، بما تضمه من قوى وإمكانات دبلوماسية وأمنية، يعزز مكانة الإقليم في مواجهة الحكومة المركزية، ويوفر أرضيةً قد تُفضي في نهاية المطاف إلى تمرير مشروع تقسيم العراق.
وفي هذا السياق، جاءت تصريحات تام باراك، السفير الأمريكي في تركيا، لتُثير القلق أكثر، حيث قال على هامش قمة الدوحة: “الفيدرالية التي تشكّلت في العراق بزعامة بغداد لم تفلح في حل مشكلات البلاد، فيما رفض الأكراد الانخراط فيها، ما أدى إلى نشوء دولة كردية ذات حكم ذاتي في الشمال، على غرار ما جرى في سوريا، ومثلما طُبّق في البلقان”.
لا تتوقف أبعاد تأسيس هذه القنصلية عند الجوانب السياسية أو الأمنية فقط، بل تتعداها إلى الأبعاد الاقتصادية. فالموقع الجغرافي للإقليم، الغني بالنفط والغاز، يجعل منه نقطة جذب اقتصادية وتجارية لا تُضاهى. ومع توسيع الأنشطة الدبلوماسية الأمريكية في أربيل، يتزايد احتمال تعميق النفوذ الاقتصادي الأمريكي، لا سيما في قطاعات البنية التحتية والصناعات النفطية.
ولتعزيز هذا النفوذ، وضعت واشنطن خططًا طويلة الأمد لاستغلال موارد الطاقة في الإقليم. وتسعى، من خلال عقود أبرمتها شركاتها مع الحكومة المحلية، إلى ترسيخ سيطرتها على استخراج هذه الموارد وتصديرها، بما يضمن لها دورًا فاعلًا في منظومة الطاقة الإقليمية.
مواجهة قوى المقاومة
إحدى أهم النقاط التي تُظهرها التحركات الأمريكية في العراق، هي سعيها المستمر لمواجهة قوى المقاومة. فخلال السنوات الماضية، بذلت واشنطن جهودًا مضنيةً لتقليص نفوذ الحشد الشعبي وإبعاده عن المشهد السياسي والأمني والعسكري، باعتباره العقبة الأكبر أمام مشاريعها في العراق. وشملت هذه الجهود الضغط لمنع إقرار قانون الحشد الشعبي، ومحاولات تفكيك هذا الكيان بالكامل.
ومع ذلك، لم تُحقق واشنطن النتائج المرجوة. ففي الانتخابات الأخيرة عام 2025، رغم المساعي السياسية والإعلامية والاقتصادية، عادت قوى المقاومة لتحصد غالبية المقاعد البرلمانية، مما شكّل ضربةً موجعةً للنفوذ الأمريكي.
وفي تصريحات أخرى للسفير تام باراك، أشار إلى هذا الواقع بقوله: “إن القوى المقربة من إيران تُمسك بزمام السياسة في العراق، ما يستدعي تغيير الهياكل السياسية وإعادة التوازن بين الأقليات لصالح التيارات الموالية للغرب”.
لذا، فإن افتتاح القنصلية في أربيل يأتي في سياق مواجهة هذه القوى، وهو ما أكده نائب وزير الخارجية الأمريكي خلال مراسم الافتتاح، حيث شدد على التزام واشنطن بالتصدي لما وصفه بـ"الميليشيات الإيرانية".
وفي ظل انحسار قدرة الولايات المتحدة على التدخل العسكري المباشر في العراق، باتت واشنطن ترى في تعزيز وجودها في شمال العراق، عبر إقليم كردستان، ضرورةً استراتيجيةً. فهذا التوجه يهدف إلى تثبيت أقدامها في العراق، وإرسال رسالة واضحة إلى بغداد مفادها أن استمرار نفوذ قوى المقاومة سيُبقي التعاون الأمريكي مع بغداد محدودًا، بينما ستظل واشنطن تعمل على تعزيز نفوذها في الإقليم، كونه الحصن الذي يضمن مصالحها في العراق والمنطقة.
