الوقت- منذ اندلاع الحرب بين إيران والاحتلال الإسرائيلي، بات واضحًا أن المواجهة التي بدأت بضربات عسكرية متبادلة لم تقتصر تداعياتها على الجانب الأمني والعسكري فقط، بل امتدت لتُحدث هزة اقتصادية غير مسبوقة في عمق الاقتصاد الإسرائيلي، الذي لطالما وُصف بأنه من الأكثر استقرارًا في منطقة الشرق الأوسط، ومع أن الحرب لم تتجاوز أسبوعين من حيث المدة، إلا أن آثارها المادية والبشرية والاقتصادية لا تزال تتفاقم يوماً بعد يوم، لتكشف عن هشاشة البنية الاقتصادية، وتحوّل حالة "الدولة القوية تقنيًا" إلى مشهد من العجز والارتباك المالي والاجتماعي.
ركود اقتصادي غير مسبوق وضربات متلاحقة
إلى جانب موجة التضخم وغلاء الأسعار، بدأت معالم ركود اقتصادي شامل تتضح من خلال أرقام البطالة ونسب التشغيل، فقد سجل شهر يونيو/حزيران 2025 قفزة دراماتيكية في معدلات البطالة، وفقًا لصحيفة كالكاليست، حيث ارتفع معدل البطالة الموسع من 4.2% في مايو إلى 10.1% في يونيو، ما يعادل 465 ألف شخص خارج سوق العمل النشط، أي أكثر من نصف مليون فرد، وهو رقم لم تشهده "إسرائيل" منذ عقود، هذه القفزة الكبيرة في أرقام البطالة، وإن بدت غير مسبوقة، تعكس اختلالًا ظرفيًا أكثر منه بنيويًا في سوق العمل، إلا أن تأثيرها على الاستقرار الاقتصادي الداخلي لا يمكن تجاهله.
وتُظهر الأرقام أن هذا الارتفاع لا يُعزى فقط إلى عمليات تسريح واسعة، بل إلى إغلاق شبه كلي للمنشآت، وعدم قدرة مئات الآلاف على الوصول إلى أماكن عملهم بسبب الأوضاع الأمنية، كما شهد معدل التوظيف انخفاضًا تاريخيًا من 60.8% إلى 56.8%، أي إن ما يقارب 292 ألف شخص توقفوا فعليًا عن العمل خلال شهر واحد.
ورغم أن "البطالة الكلاسيكية" – أي الباحثين فعليًا عن عمل – تراجعت بشكل طفيف من 3.1% إلى 2.7%، فإن هذا يُفسَّر بأنه نتيجة إحجام واسع عن البحث عن عمل في ظروف الحرب، وليس مؤشرًا على تحسن سوق العمل.
انفجار الأسعار وتآكل القدرة الشرائية
واحدة من أبرز نتائج الحرب تمثلت في الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الأساسية، وخصوصًا الأغذية والمشروبات، حيث أعلنت كبرى الشركات الإسرائيلية رفع أسعار الشوكولاتة والقهوة والمشروبات الغازية والأرز وغيرها من المنتجات الاستهلاكية، فيما بات 52% من المواطنين يشتكون من تدهور أوضاعهم المالية.
وبيّن استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "فكتو ستراتيجيك ريسيرتش" التابعة لصحيفة كالكاليست أن الزيادة الكبيرة في الأسعار ليست مجرد موجة تضخمية عابرة، بل غيّرت فعليًا نمط الاستهلاك اليومي للإسرائيليين، وأجبرتهم على تقليص مشترياتهم الأساسية أو الاستغناء عنها تمامًا.
وحسب نتائج الاستطلاع، فإن أكثر من 95% من المستطلعين أكدوا أن تكاليف المعيشة ارتفعت بشكل حاد خلال عام، فيما صرّح نحو ثلث الإسرائيليين أنهم يفكرون بمغادرة البلاد نهائيًا، في ظاهرة تُذكّر بأجواء التفكك الاجتماعي التي تُرافق الحروب طويلة الأمد، وكان لافتًا أن 80% من المشاركين حمّلوا الحكومة المسؤولية المباشرة عن الأزمة المالية، متهمينها بالعجز عن إدارة تداعيات الحرب واحتواء الانهيار المعيشي.
شلل في الاستهلاك وتغير جذري في نمط الحياة
الاستطلاع نفسه كشف أن 99% من المشاركين غيّروا نمط حياتهم بسبب الأسعار، حيث توقف أكثر من 60% عن الذهاب إلى المطاعم، وقلل 42% من حجم تسوقهم من المتاجر، بينما أفاد 36% بأنهم لم يعودوا يطلبون الطعام من الخارج كما في السابق، هذه المؤشرات تشير بوضوح إلى حالة جمود استهلاكي خانق، يمكن وصفه بـ"الإضراب الاجتماعي غير المعلن"، إذ تعزف شرائح واسعة من السكان عن الإنفاق غير الضروري حفاظًا على ما تبقى من مداخيلهم.
صدمات مادية تفوق التقديرات الحكومية
الصدمة الاقتصادية لا تتوقف عند حدود سوق العمل، إذ أعلنت الجهات الرسمية أن الحرب مع إيران كلفت الاقتصاد الإسرائيلي بشكل مباشر نحو 12 مليار دولار، تشمل النفقات العسكرية، والأضرار الناتجة عن الصواريخ، والتعويضات، وإعادة الإعمار، أما إذا أضيفت الخسائر غير المباشرة، فإن الرقم قد يتجاوز 20 مليار دولار.
ووفق صحيفة يديعوت أحرونوت، فإن تكلفة الحرب وحدها على خزينة الحكومة بلغت 7 مليارات دولار، وهو ما يطرح تساؤلات جدية حول جدوى ميزانية الدفاع المُعلنة لعام 2025، التي قُدرت بـ110 مليارات شيكل فقط، بينما تشير التقديرات إلى إمكانية بلوغ التكاليف الحقيقية حدود 200 مليار شيكل.
أزمة تعويضات ضخمة وأرقام قياسية للمتضررين
تسببت الهجمات الإيرانية في دمار واسع للممتلكات، حيث أعلنت "هيئة التعويضات" الإسرائيلية تلقيها ما يقارب 50 ألف طلب تعويض، فيما بلغت المدفوعات حتى منتصف يوليو أكثر من 2.5 مليار شيكل، ويتوقع أن تصل إلى 5 مليارات شيكل (1.5 مليار دولار).
وتحدثت التقارير عن دمار واسع لعدة مبانٍ في مؤسسات كبرى مثل معهد وايزمان ومصفاة حيفا، إذ قُدرت الخسائر في وايزمان وحدها بـ2 مليار شيكل.
انعدام شبكة الأمان الاقتصادي والاجتماعي
واحدة من أكثر النقاط المثيرة للقلق، كما عبّر عنها آدام بلومبورغ، نائب المدير الاقتصادي لاتحاد العمال العام في إسرائيل، هي غياب "شبكة أمان اقتصادية" خلال الحرب، فقد أُغلق الاقتصاد بالكامل تقريبًا باستثناء بعض المصانع الحيوية، وهو أمر لم يحدث حتى خلال حرب الـ 7 من أكتوبر 2023 ضد غزة.
وأكد بلومبورغ أن تكلفة شلل الاقتصاد الإسرائيلي بلغت حوالي 1.5 مليار شيكل يوميًا، وسط غياب أي آليات لحماية العمال أو الشركات.
أزمة سيولة في الشركات الكبرى
وحسب صحيفة معاريف، فإن عشرات الشركات الكبرى لم تعد قادرة على دفع رواتب موظفيها، بسبب توقف الإنتاج وتعطل الدورة الاقتصادية، ما يهدد بانفجار أزمة اجتماعية شاملة ما لم يتم تعويض هذه الشركات سريعًا أو إنعاشها عبر تدخل حكومي مباشر.
ضربة لقطاع التكنولوجية
ولطالما حاولت "إسرائيل" ترويج نفسها مركزاً إقليمياً للتكنولوجيا والاستثمار، إلا أن تكرار الضربات الصاروخية على العمق الإسرائيلي زلزل هذه الصورة الذهنية عالمياً، وقد يتسبب في شلل مالي للاقتصاد المحلي. ونقلت صحيفة فاينانشال تايمز عن مصادر مصرفية، أن كبار المستثمرين الأجانب أعادوا تقييم محافظهم المرتبطة بالشركات الإسرائيلية.
كما علقت بعض الصناديق الاستثمارية في أوروبا عمليات ضخ تمويل جديدة في السوق، ويخشى محللون من أن تؤدي الضربات إلى تغير قواعد اللعبة في بيئة المخاطر، ما يُجبر شركات التكنولوجيا على نقل بعض مقارها أو مصانعها إلى دول أكثر استقراراً، وهذا قد تكون له تبعات استراتيجية على المدى المتوسط.
نهاية أسطورة الاقتصاد الإسرائيلي؟
قد تُظهر بيانات يوليو/تموز بعض علامات "الاستقرار الحربي"، لكن ذلك لا يعني العودة إلى الوضع الطبيعي، بل الدخول في نمط طوارئ طويل الأمد. الحرب مع إيران كشفت أن الاقتصاد الإسرائيلي هشّ أمام أي صدمة خارجية، وأن بنيته المصممة لنموذج اقتصادي غربي مفتوح لا تصمد في بيئة حرب شاملة ومفتوحة.
ومع أن بعض المسؤولين الإسرائيليين يحاولون تصوير الأزمة على أنها "مؤقتة"، إلا أن المؤشرات على الأرض – من تآكل الطبقة الوسطى، وارتفاع البطالة، وتآكل الاستهلاك، وتفكك سلاسل التوريد – ترسم صورة أكثر قتامة، توحي بأن "إسرائيل ما بعد حرب إيران" لن تكون كما قبلها، اقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيًا.