الوقت- مع تصاعد حرب الكيان الإسرائيلي على قطاع غزة واستمرار العمليات العسكرية التي أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، تزايدت الدعوات داخل الاتحاد الأوروبي لمراجعة "اتفاقية الشراكة" الموقعة مع الكيان الإسرائيلي منذ عام 1995، هذه الدعوات، المدفوعة بزخم شعبي ورسمي، تسعى إلى محاسبة الكيان الإسرائيلي على ما تُوصف بأنها انتهاكات جسيمة للقانون الدولي وحقوق الإنسان، وقد فتحت نقاشًا حساسًا داخل مؤسسات الاتحاد حول العلاقة مع الكيان في ضوء المادة الثانية من الاتفاقية التي تشترط احترام حقوق الإنسان كأساس للعلاقات المشتركة.
الاتفاقية والسياق السياسي
وقّعت اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي و"إسرائيل" عام 1995، ودخلت حيز التنفيذ في يونيو 2000، وتُعد الإطار القانوني الرئيسي للعلاقات الثنائية، إذ تشمل التعاون التجاري والعلمي والثقافي، كما تتيح للكيان الإسرائيلي وصولًا تفضيليًا إلى السوق الأوروبية.
تنص المادة الثانية من الاتفاقية بوضوح على أن "العلاقات بين الطرفين، وكذلك جميع أحكام هذه الاتفاقية، يجب أن تستند إلى احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية"، هذه المادة تُعد من البنود الجوهرية، ما يمنح الاتحاد الأوروبي الأساس القانوني لمراجعة أو تعليق الاتفاق في حال الإخلال بها.
منذ اندلاع الحرب في غزة في أكتوبر 2023، والتي خلّفت حتى مايو 2025 أكثر من 35 ألف قتيل فلسطيني – بينهم نساء وأطفال – وفق وزارة الصحة الفلسطينية، تصاعدت المطالب الأوروبية بمحاسبة الكيان الإسرائيلي، وأعلنت أيرلندا رسميًا في 11 مايو 2025 أنها تسعى لطرح مراجعة الاتفاقية على طاولة الاتحاد الأوروبي، معتبرة أن ما يجري "خرقٌ ممنهجٌ للقانون الدولي الإنساني" (يورونيوز، 11 مايو 2025).
تحركات أوروبية متزايدة
انضمت هولندا لاحقًا إلى المبادرة الأيرلندية، حيث صرح وزير خارجيتها كاسبر فالدكامب بأن بلاده تدعم إعادة النظر في الشراكة مع "إسرائيل"، "نظرًا لفداحة الانتهاكات"، كما أعربت بلجيكا وإسبانيا عن تأييدهما لهذا التوجه، واعتبرت الحكومة الإسبانية أن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه غض الطرف عن "مجازر جماعية ترتكب بحق المدنيين".
وعلى الرغم من أن فرنسا لم تتخذ موقفًا حاسمًا، فقد وصف وزير خارجيتها، جان نويل بارو، الطلب بأنه "مشروع وقانوني"، مشيرًا إلى أن باريس تدرس الموقف بالتنسيق مع شركائها الأوروبيين (الأناضول، 11 مايو 2025).
في المقابل، لا تزال ألمانيا، وهي من أبرز داعمي "إسرائيل" في الاتحاد، تتحفّظ على أي إجراء من شأنه التأثير على العلاقات الثنائية، وحذرت من "خلط السياسة مع الاتفاقيات المؤسسية"، معتبرة أن "الاتفاقات يجب أن تصمد أمام التقلبات السياسية".
التحليل القانوني والسياسي
يمنح النص القانوني للمادة الثانية الاتحاد الأوروبي صلاحية تعليق أو إعادة تقييم الاتفاقية في حال الإخلال بحقوق الإنسان، إلا أن تفعيل هذه المادة يتطلب إجماعًا من الدول الأعضاء في مجلس الاتحاد الأوروبي، ما يجعل القرار معقدًا من الناحية السياسية.
تقارير حقوقية وأممية أصدرت توثيقًا لسلسلة من الهجمات الإسرائيلية على المدنيين، والمستشفيات، والمدارس، ومنشآت الأمم المتحدة، ووصفت "هيومن رايتس ووتش" و"أمنيستي إنترناشونال" هذه الأفعال بأنها "قد ترقى إلى جرائم حرب"، ما يمنح داعمي المراجعة الأوروبية أرضية قانونية أقوى.
لكن تعقيدات السياسة الدولية تلقي بظلالها، إذ تبلغ قيمة التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي والكيان الإسرائيلي حوالي 46 مليار يورو سنويًا، وتشمل التعاون في التكنولوجيا المتقدمة، والدفاع، والطاقة، ما يجعل الاعتبارات الاقتصادية والسياسية حاسمة في اتخاذ القرار.
ردود الفعل من البرلمان الأوروبي والمنظمات غير الحكومية
البرلمان الأوروبي شهد في الأشهر الأخيرة عدة جلسات نقاش ساخنة حول الموقف من الحرب في غزة، وقد وقّع أكثر من 120 نائبًا على عريضة تطالب بتجميد الشراكة مع الكيان الإسرائيلي، في حين دعا البعض إلى فرض عقوبات محددة على المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في جرائم الحرب.
كما أصدرت منظمات أوروبية مثل "مجموعة الأزمات الدولية" و"أطباء بلا حدود" مذكرات تطالب الاتحاد الأوروبي بتحمل مسؤوليته الأخلاقية والقانونية، ولا سيما أن الاتحاد يُعد أكبر جهة مانحة للسلطة الفلسطينية، ويُفترض أن يلعب دورًا سياسيًا متوازنًا في النزاع.
مواقف دولية داعمة للمساءلة
خارج أوروبا، عبّرت دول مثل جنوب إفريقيا والبرازيل وتشيلي عن دعمها لتوجه المساءلة. ورفعت جنوب إفريقيا دعوى قضائية ضد الكيان الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية، متهمة إياها بارتكاب "جرائم إبادة جماعية" بحق سكان غزة، وقد أشاد عدد من القادة الأوروبيين بهذه الخطوة، معتبرين أنها تعزز من مشروعية مطالبة الاتحاد بإعادة تقييم علاقاته مع الكيان.
رد الكيان الإسرائيلي
رفضت حكومة الكيان الإسرائيليي الاتهامات الأوروبية، ووصفت التحركات بأنها "هجوم سياسي غير عادل" يسعى لتجريم حقها في الدفاع عن نفسها، وفي بيان صادر عن وزارة الخارجية الإسرائيلية، أكدت فيها أن "الجيش الإسرائيلي يعمل وفقًا للقانون الدولي، وأن مسؤولية سقوط الضحايا المدنيين تقع على حماس التي تستخدمهم دروعًا بشرية".
كما حذرت "إسرائيل" من أن تعليق أو تقييد الاتفاقية قد يضر بالتعاون في مجالات الأمن ومكافحة الإرهاب، وهو ما تعتبره بعض الدول الأوروبية عاملًا مهمًا في العلاقة مع الكيان الإسرائيلي.
انعكاسات محتملة وتقديرات مستقبلية
مراجعة اتفاقية الشراكة قد تشكّل سابقة في العلاقات الأوروبية الإسرائيلية، وقد تؤدي إلى سلسلة من التداعيات تشمل:
تجميد مشاريع تجارية أو علمية مشتركة.
مراجعة اتفاقيات الدفاع والتدريب العسكري.
فرض قيود على صادرات الأسلحة أو المكونات التكنولوجية.
دعم أكبر للجهود القضائية الدولية ضد مسؤولين إسرائيليين.
من جهة أخرى، قد يؤدي هذا التصعيد إلى مزيد من التوتر بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، الحليف الأول للكيان الإسرائيلي، التي لا تزال تعارض بشدة أي خطوات أوروبية تصب في خانة العقوبات أو المقاطعة.
في الختام.. إن الدعوات المتزايدة لمراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والکیان الإسرائيلی تعكس تحوّلًا مهمًا في الرأي العام الأوروبي، وفي مواقف بعض الحكومات تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبينما تظل المصالح الاستراتيجية عاملًا كابحًا، فإن قوة الدفع الحقوقية والقانونية قد تفرض على الاتحاد موقفًا أكثر حزمًا في المستقبل القريب.
إذا لم يتخذ الاتحاد خطوات ملموسة خلال الفترة القادمة، فإن مصداقيته كمدافع عن حقوق الإنسان ستكون موضع تساؤل واسع، ليس فقط من قبل شعوب الشرق الأوسط، بل من داخل مجتمعاته نفسها.