الوقت - في خضم تصاعد المواجهات الدامية بين الفصائل المرتبطة بهيئة تحرير الشام والأقليات المختلفة في شتى أرجاء سوريا، تحولت دراسة المشهد السياسي والأمني في هذا البلد، إلى أولوية قصوى على أجندة دول الجوار، وفي هذا السياق، احتضنت العاصمة الأردنية "عمّان" يوم الأحد الماضي اجتماعاً رفيع المستوى، ضمّ وزراء خارجية الأردن وسوريا ولبنان والعراق وتركيا.
أكد المجتمعون في البيان الختامي المكون من أحد عشر بنداً، على ضرورة دعم مساعي إعادة إعمار سوريا، وحشد التأييد الدولي للمشاريع الهادفة إلى تحسين الأوضاع بصورة عاجلة.
کما طالب المشاركون برفع العقوبات المفروضة على سوريا، لتمكين عملية إعادة الإعمار وتعزيز أواصر التعاون الاقتصادي والاستثماري، ولا سيما في القطاعات الحيوية كالطاقة والنقل.
کذلك، شددوا على أهمية تهيئة الظروف المواتية لعودة آمنة ومستدامة للاجئين السوريين، وضرورة اضطلاع المجتمع الدولي بمسؤولياته في هذا الصدد، وأشار البيان إلى أن الاجتماع الثاني سيُعقد في تركيا خلال شهر أبريل/نيسان، لمتابعة تنفيذ هذه المقررات.
رؤى متباينة تجاه السيادة ووحدة التراب السوري
من المحاور الجوهرية التي طُرحت في مؤتمر عمّان، هي مسألة دعم وحدة الأراضي السورية، حيث أكد المجتمعون أن أمن واستقرار سوريا، يشكّل ركيزةً أساسيةً لأمن واستقرار المنطقة بأسرها، وأدانوا بشدة جميع المساعي والجماعات التي تستهدف أمن وسيادة ووحدة أراضي سوريا.
واستنكر المشاركون في المؤتمر الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية التي تهدد وحدتها الترابية، وطالبوا بانسحاب قوات الاحتلال واحترام اتفاقية وقف إطلاق النار المبرمة عام 1974 بين سوريا و"إسرائيل".
رغم التوافق الظاهري على هذا المبدأ الأساسي، إلا أن دول الجوار السوري تتبنى أجندات متباينة، تجعل الوصول إلى إجماع حقيقي أمراً بالغ الصعوبة والتعقيد.
تسعى الدول العربية جاهدةً للحفاظ على وحدة الأراضي السورية بشكلها الراهن، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من النسيج العربي، ويدعم العراق بقوة وحدة الأراضي السورية، ويعارض بحزم أي محاولات لتقسيمها أو تفتيتها.
ويؤيد الأردن، نظراً لحدوده المشتركة الممتدة مع سوريا، ومخاوفه المشروعة من تهريب السلاح والمخدرات، الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ومع تنامي نفوذ الجماعات الإرهابية في دمشق، يتوجس الأردن خيفةً من تسلل هذه الجماعات إلى المناطق الحدودية، ونشر بذور عدم الاستقرار داخل أراضيه.
علاوةً على ذلك، يشعر الأردن والعراق بقلق بالغ إزاء سياسات التوسع الإسرائيلية، ويسعيان بشتى السبل للحفاظ على وحدة الأراضي السورية بشكلها الحالي، إذ لم يسبق لهذا التوسع الإقليمي الصهيوني أن ظهر بهذه الجرأة منذ آخر حرب عربية-إسرائيلية، وقد كشفت الأزمة السورية بوضوح أن حالات عدم الاستقرار في الدول العربية، تمثّل فرصةً ذهبيةً لقادة تل أبيب لتحقيق مشروع "من النيل إلى الفرات" التوسعي.
وبما أن الكيان الصهيوني لم يحدد يوماً حدوداً نهائيةً لما يسميه "الأرض الموعودة"، ولم يرسخ حتى الآن حدوداً دوليةً معترفاً بها، فإن هذه المسألة تثير هواجس عميقة لدى العرب، وبالتالي، في ضوء التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط ومخطط نتنياهو لإقامة "إسرائيل الكبرى"، تتنامى المخاوف من أن تمتد الأطماع الصهيونية لاحتلال الأردن والعراق بعد استكمال مخططاتها في سوريا.
يدعم لبنان أيضاً بثبات وحدة الأراضي السورية نظراً للروابط التاريخية والجغرافية الوثيقة بين البلدين، ويعارض بشدة أي تدخل خارجي، خشية انتقال عدوى عدم الاستقرار إلى الداخل اللبناني.
في المقابل، رغم تأييدها الرسمي لوحدة الأراضي السورية، تضع تركيا في صدارة أولوياتها احتواء النفوذ الكردي، ومنع تشكيل منطقة كردية ذاتية الحكم في شمال سوريا، فمنذ عقد من الزمن، عززت تركيا وجودها العسكري في شمال سوريا بذريعة مكافحة الجماعات الانفصالية الكردية، وتسعى الآن، مع صعود الجماعات المتمردة إلى سدة السلطة، لاستثمار هذا الوضع في تحقيق طموحاتها الاستراتيجية.
تعتزم أنقرة، بمساندة الفصائل المسلحة الموالية لها، شنّ هجمات على المناطق الخاضعة للسيطرة الكردية والاستحواذ على العديد من هذه المدن، بهدف إبعاد ما تعتبره تهديدات أمنية عن حدودها، غير أن هذه السياسة التدخلية ستفضي حتماً إلى مزيد من التدهور الأمني في سوريا، بدلاً من المساهمة في استعادة الاستقرار المنشود.
ومن الأهمية بمكان للأردن والعراق ولبنان، وجود سلطة مركزية قوية في سوريا قادرة على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بينما تفضّل تركيا وجود حكومة مركزية هشة لتبرير استمرار وجودها العسكري، وترسيخ مناطق نفوذها في شمال سوريا.
تفسيرات متباينة لمفهوم الإرهاب
من القضايا المحورية التي طُرحت في مؤتمر عمّان، إدانة الإرهاب بجميع تجلياته والتعاون في مكافحته من خلال الإجراءات العسكرية والأمنية والفكرية، وإنشاء مركز عمليات مشترك للتنسيق والتعاون في مواجهة تنظيم "داعش" الإرهابي ودعم الجهود والمنصات الإقليمية والدولية، غير أن دول الجوار السوري تتبنى تفسيرات متباينة بل متناقضة حتى في هذه القضية الجوهرية.
تصنّف تركيا الجماعات الكردية السورية حصراً كنموذج بارز للإرهاب الذي يستوجب الاستئصال، بينما لا تطبّق المعايير ذاتها تجاه سبع وثلاثين جماعة متمردة متمركزة في دمشق، بل تقدّم لها الدعم والمساندة لتشكيل الحكومة، وهو الموقف الذي أكده وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مجدداً في مؤتمر عمّان، حيث شدد على ضرورة تجنب جميع مكونات الشعب السوري للصراع، لكنه صنف حزب العمال الكردستاني "PKK" كعدو مشترك للعراق وسوريا وتركيا، مبرهناً أن أنقرة لن تتساهل مطلقاً مع الجماعات الكردية.
ويأتي ذلك في الوقت الذي وقعت فيه قوات سوريا الديمقراطية، التي تصنفها تركيا كمنظمة إرهابية، مذكرة تفاهم مع الحكومة السورية المؤقتة يوم الأحد، تنصّ على دمج القوات الكردية في الهياكل الأمنية والسياسية السورية.
يعتبر الأردن والعراق جماعات مثل هيئة تحرير الشام، ذات التوجهات الإسلاموية والإخوانية في المنطقة، تهديداً خطيراً لأمنهما القومي، وحالياً مع تبوء هذه الجماعة موقع قيادة المعارضة، تساورهما مخاوف عميقة بشأن سلوكها المستقبلي وتوجهاتها الاستراتيجية.
وبالنسبة للأردن المتاخم لسوريا، فإن تعدد الفصائل والتنظيمات داخل سوريا والمصالح المتضاربة للقوى المتصارعة على حصتها من "كعكة سوريا"، يشكّل تهديداً وجودياً للأمن القومي الأردني، ويفرض أعباءً اقتصاديةً باهظةً على المملكة، ونظراً لمشاركة مئات من العناصر المتطرفة الأردنية في أتون الحرب الأهلية السورية، تخشى القيادة الأردنية من أن يستلهم هؤلاء من انتصار المعارضة السورية، نموذجاً لتكرار السيناريو ذاته داخل الأراضي الأردنية.
كما يساور الأردن قلق متزايد من تفاقم ظاهرة تهريب المخدرات عبر الحدود السورية، وهو هاجس تضخّم مع صعود الجماعات المتطرفة إلى سدة السلطة في سوريا بشكل غير مسبوق.
أما العراق، الذي يستشعر تهديدات محدقة على حدوده، فيخشى أن تمهّد العناصر المرتبطة بهيئة تحرير الشام، الطريق لعودة النشاط الإرهابي بزخم جديد على الأراضي العراقية.
يعتبر لبنان أيضاً الإرهاب تهديداً وجودياً لاستقراره الداخلي الهش، وخاصةً في ظل وجود جماعات متطرفة في المناطق الحدودية، وخطر امتداد تداعيات الأزمة السورية إلى عمق النسيج اللبناني.
وسط هذه المخاوف العميقة والمشروعة، أثبتت تركيا مراراً أنها ليست شريكاً موثوقاً في منظومة مكافحة الإرهاب، فهي تستخدم بشكل ممنهج شعار مكافحة الإرهاب كذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة، وخلال العقد المنصرم رسخت موطئ قدمها في العراق وسوريا متذرعةً باعتبار بعض الجماعات الانفصالية تهديداً وجودياً للأمن القومي التركي.
لا تستشعر تركيا راهناً أي تهديد من الجماعات المسلحة التي اكتسبت نفوذاً متعاظماً في سوريا، بيد أن الوضع يختلف جذرياً بالنسبة للعراق والأردن، اللذين يستشعران قلقاً بالغاً من التهديدات الأمنية المتأتية من الجارة الشمالية، حيث برهنت هيئة تحرير الشام خلال الأشهر الثلاثة المنصرمة، من خلال الفظائع التي ارتكبتها بحق الأقليات السورية، أنها ليست خياراً جديراً بالثقة لإدارة دفة الحكم.
لذلك، فإن المحرك الرئيسي لحالة عدم الاستقرار في سوريا راهناً، هو الجماعات الإرهابية ذاتها التي تمارس القتل الممنهج بحق المدنيين، بذريعة مواجهة فلول النظام السابق، وعليه، إذا حظيت هيئة تحرير الشام والعناصر المرتبطة بها باعتراف المجتمع الدولي، فمن المرجح أن تنفذ مشروعها لتصفية المعارضين بطريقة مقننة ومنهجية.
تركيا وهيئة تحرير الشام: المستفيدان الأبرز من المؤتمرات الإقليمية
رغم مشاركة الدول العربية في المؤتمرات الإقليمية المتعلقة بالشأن السوري، بهدف تخفيف هواجسها الأمنية إزاء الجماعات الإرهابية السورية، واستمرار نظرتها التشاؤمية لآفاق التطورات السياسية والأمنية في هذا البلد المنكوب، إلا أن هذه المحافل تمثّل ورقةً رابحةً لتركيا وحكومة أبو محمد الجولاني المؤقتة لتنفيذ مخططاتهما الطموحة.
إن قبول قيادات هيئة تحرير الشام في المحافل الإقليمية (على غرار حضور الجولاني في اجتماع جامعة الدول العربية، ومشاركة أسعد الشيباني وزير خارجية الحكومة المؤقتة في مؤتمر الأردن)، يعني تحولاً جذرياً في مكانة هذه الجماعة من تنظيم إرهابي منبوذ إلى فاعل سياسي يحظى بالشرعية، وذلك دون أن تتخذ أدنى إجراء لتجسيد شعاراتها المتعلقة بالدفاع عن حقوق الإنسان، ووقف أعمال القتل، ومكافحة "داعش"، وتشكيل حكومة جامعة، ونزع سلاح الفصائل التكفيرية المتناثرة.
أما تركيا، التي تربطها علاقات وثيقة بهيئة تحرير الشام، فيمكنها استثمار هذا الوضع لتوسيع دائرة نفوذها في سوريا، لطالما واجهت أنقرة ضغوطاً دوليةً متزايدةً بسبب دعمها للجماعات الإرهابية في سوريا، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، وبالتالي فإن حضور قادة هذه الجماعة في المؤتمرات الإقليمية، يعني الاعتراف الضمني بدورها السياسي وبالتبعية تخفيف وطأة الضغوط الدبلوماسية على تركيا، لذا، إذا شاركت هيئة تحرير الشام كطرف محوري في هذه المحافل، فهذا يعني إقراراً ضمنياً بدور تركيا كلاعب رئيسي في إدارة دفة التطورات الداخلية في سوريا.
في المحصلة النهائية، فإن تضارب مصالح دول الجوار والأطراف المعنية بالشأن السوري، لا يسهم في حلحلة أزمات هذا البلد المنكوب فحسب، بل إن استمرار التدخلات الخارجية سيؤدي حتماً إلى إدامة حالة عدم الاستقرار، والمستفيد الوحيد من هذا المشهد المأساوي، هو الكيان الصهيوني الذي لن يتوانى عن استغلاله لتنفيذ مخططاته التوسعية العدوانية.