الوقت- في ظل حرب مستمرة منذ شهور على قطاع غزة، برزت خلال الأسابيع الأخيرة ملامح أزمة تفاوضية جديدة بين الكيان الإسرائيلي وحركة حماس، حيث تسعى أطراف دولية وإقليمية للتوصل إلى اتفاق شامل يوقف النزيف الإنساني ويؤسس لمرحلة سياسية جديدة، إلا أن الشروط المطروحة على الطاولة تكشف عن فجوة عميقة بين الطرفين، تجعل الوصول إلى حل وسط أمراً بالغ الصعوبة. فحماس تضع قائمة مطالب تعتبرها ضرورية لضمان أي هدنة طويلة الأمد، بينما ترى إسرائيل أن هذه المطالب غير عملية وغير واقعية، وأن قبولها قد يهدد أمنها ويقوّض أهدافها العسكرية.
الموقف الإسرائيلي: أمن قبل أي اتفاق
القيادة في الكيان الصهيوني، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، تنطلق في موقفها من قناعة راسخة بأن أي اتفاق لا يحقق تفكيك القدرات العسكرية للمقاومة أو يقلص نفوذها بشكل جذري هو اتفاق ناقص. ولهذا، يتعامل الاحتلال مع شروط الحركة على أنها محاولة لانتزاع مكاسب سياسية تحت ضغط الأزمة الإنسانية. هذه الرؤية تجعل العدو الغاشم يرفض المطالب الأساسية التي طرحتها حماس، وفي مقدمتها وقف شامل ودائم للحرب، وانسحاب القوات الغازية من القطاع، ورفع كامل للحصار. وتؤكد حكومة الاحتلال أن هذه الشروط تعني عملياً عودة المقاومة إلى موقع القوة، مما قد يتيح لها إعادة بناء بنيتها العسكرية وتهديد الأمن الصهيوني من جديد. لذلك، تصر سلطات الكيان على أن أي وقف للقتال يجب أن يرتبط بخطوات ملموسة لتجريد الحركة من سلاحها وتفكيك أنفاقها وبنيتها القتالية، وهو شرط تعتبره حماس مرفوضاً تماماً.
شروط حماس: ضمانات إنسانية وسياسية
من جانبها، تربط حماس أي تقدم في المفاوضات بالحصول على ضمانات مكتوبة وملزمة، تتضمن وقفاً دائماً لإطلاق النار، وانسحاباً إسرائيلياً شاملاً من جميع مناطق القطاع، وفتح ممرات إنسانية دائمة تسمح بدخول المساعدات الغذائية والطبية بلا قيود، إضافة إلى إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في إطار صفقة تبادل تشمل الجنود والمدنيين الإسرائيليين المحتجزين لديها. وتؤكد الحركة أن هذه الشروط ليست مناورة سياسية، بل هي الحد الأدنى الذي يمكن أن يحقق حماية حقيقية لسكان القطاع من جولات القتال المتكررة. وترى حماس أن أي اتفاق مؤقت أو هدنة قصيرة الأمد سيكون بمثابة استراحة لإسرائيل لإعادة تنظيم عملياتها العسكرية، وهو ما ترفضه بشكل قاطع.
فجوة تفاوضية واسعة
هذه الفجوة الكبيرة في المواقف جعلت الوسطاء الدوليين يجدون أنفسهم أمام مأزق حقيقي. فإسرائيل، التي تعتبر شروط حماس ضرباً من الخيال السياسي، تميل إلى مواصلة الضغط العسكري على أمل إرغام الحركة على تقديم تنازلات، بينما تراهن حماس على صمودها الميداني، وعلى تنامي الضغوط الدولية نتيجة الكارثة الإنسانية في غزة. هذه المعادلة تجعل أي تقدم في المفاوضات بطيئاً ومشروطاً، بل وقد يعرضها للانهيار في أي لحظة إذا أصر كل طرف على موقفه.
البعد الإنساني في المعادلة
وراء المواقف السياسية والعسكرية، يقف الواقع الإنساني في غزة كعامل ضاغط على جميع الأطراف. فالحصار المفروض منذ أشهر، والقصف المستمر، ونقص المواد الغذائية والدوائية، كلها عوامل جعلت الوضع الإنساني يقترب من حافة الكارثة. المنظمات الدولية تحذر من مجاعة وشيكة، فيما يتزايد الضغط الشعبي على سلطات الاحتلال من بعض الأوساط الداخلية التي تخشى أن يتحمل جيش الكيان الصهيوني مسؤولية أخلاقية وسياسية عن تدهور الأوضاع. وفي المقابل، تستخدم حماس هذه الورقة الإنسانية للضغط على إسرائيل والوسطاء، مؤكدة أن استمرار الحصار والقصف يبرر موقفها المتشدد في المفاوضات.
تصعيد عسكري موازٍ للمفاوضات
على الرغم من استمرار الاتصالات غير المباشرة بين الجانبين عبر وسطاء، فإن الميدان يشهد تصعيداً متدرجاً. إسرائيل توسع عملياتها البرية في مناطق مختلفة من القطاع، وتسعى لفرض وقائع ميدانية قد تجعلها في موقع أقوى إذا ما عادت المفاوضات إلى مسار جدي. وفي المقابل، تحاول حماس الحفاظ على قدرتها على الرد العسكري وإظهار أن قوتها لم تُستنزف بالكامل، في رسالة واضحة لسلطات الاحتلال أن الحرب لم تحسم بعد لصالحها. هذا التصعيد الميداني يضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى المسار السياسي، ويجعل الوسطاء يعملون في بيئة يغلب عليها انعدام الثقة.
دور الوسطاء الإقليميين والدوليين
تلعب أطراف عدة دور الوساطة بين حماس وإسرائيل، منها دول عربية مؤثرة مثل مصر وقطر، إضافة إلى الولايات المتحدة التي توازن بين دعمها التقليدي للكيان الصهيوني وضغوط الرأي العام العالمي بشأن الأوضاع الإنسانية. إلا أن هذه الوساطات تصطدم بعقبة أساسية: كل طرف يصر على أن نقطة انطلاق التفاوض يجب أن تكون من موقعه، لا من نقطة وسطية. فإسرائيل تريد أن يبدأ النقاش من ملف نزع سلاح حماس، بينما تريد الحركة أن يبدأ من وقف إطلاق النار ورفع الحصار، ما يجعل الوسطاء في وضع من يحاول الجمع بين خطوط متوازية لا تلتقي.
في النهاية، المشهد الحالي يعكس صراعاً مركباً بين الأهداف السياسية والأمنية والاعتبارات الإنسانية، حيث يتعامل كل طرف مع المفاوضات بوصفها امتداداً لساحة القتال. المقاومة ترى أن حماية حياة أهل غزة ورفع الحصار حقٌ لا يُساوَم عليه، وأن التمسك بثوابت التحرير هو السبيل الوحيد لردع العدو الغاشم. أما الكيان الصهيوني فيسعى لفرض شروط قسرية تكفل بقاء هيمنته وتمنع نهضة القطاع من جديد. وفي ظل هذه المعادلة الصفرية، تبدو فرص الوصول إلى اتفاق شامل ضئيلة، إلا إذا أُجبر الاحتلال على التراجع تحت ضغط الصمود الشعبي والميداني، أو بفعل تحرك خارجي حقيقي يفرض حلاً يضمن حقوق الشعب الفلسطيني. وحتى ذلك الحين، سيبقى الغزيون على خط المواجهة، يدفعون ثمن الحرب، لكنهم يواصلون المقاومة بثبات وإيمان بعدالة قضيتهم.