الوقت- لا يزال الشرق الأوسط يحتفظ بأهميته الجيوسياسية، لكن أمريكا لم يعد لها نفوذ في هذه المنطقة، هذا ما يقوله المحللون الغربيون الذين يعتقدون أن واشنطن خسرت الشرق الأوسط من خلال الإضرار بعلاقتها مع الرياض، ووضع المفاوضات النووية مع إيران، وعلاقتها مع "إسرائيل".
أضف إلى ذلك أن أمريكا مضطرة إلى القبول بواقع آخر وهو أن عملاءها السابقين لم يعودوا مستعدين لإنفاق ملايين الدولارات لشراء أسلحة عسكرية من هذا البلد والتسامح مع احتكار المبيعات والوجود العسكري لهذا البلد في المنطقة.
ويمكن ملاحظة هذه الحقيقة بشكل خاص عندما سافر "جيك سوليفان"، مستشار الأمن القومي للولايات المتحدة، إلى السعودية مرتين على الأقل في الأشهر الأخيرة، وفي الرحلة الأولى، انتظر عدة أيام للقاء محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، لكن "بن سلمان" فضل قضاء بضع دقائق فقط من وقته في هذا اللقاء، وفي الوقت نفسه، لم يُظهر أدنى حماس لمقترحات "سوليفان" المغرية مقابل وقف العلاقات السياسية والاقتصادية مع المحور الصيني الروسي وتعليق العلاقات مع إيران.
ولذلك، يبدو أن المصالحة بين إيران والعرب قد خلقت أجواءً في الخليج الفارسي ومنطقة غرب آسيا بأكملها، حيث لم تعد هناك حاجة محسوسة إلى الوجود الأمريكي كما كانت في الماضي، ولهذا السبب فإن صناع القرار في هذا البلد، ومن خلال تقليص قواتهم في المنطقة بعد مواجهة ظروف جديدة، يزيدون عدد مبعوثيهم العسكريين في المنطقة مرة أخرى من أجل مواكبة مشهد التطورات.
ويرى "ستيفن والت"، محلل العلاقات الدولية المعروف، أن هذا الوضع والاتفاق بين إيران والسعودية هو نتيجة العيوب الفادحة في قرار "بايدن" بشأن الشرق الأوسط، والذي شل عمليا سياسة أمريكا في المنطقة؛ سياسة تفضل إقامة علاقات خاصة فقط مع بعض دول الشرق الأوسط وتغمض أعينها عن أنشطة بعض الجهات مثل إيران وتبقي علاقتها بها غير واضحة دائما.
ونتج عن هذه السياسة أن أقرب حلفائها العرب، مثل السعودية ومصر، لم يعودوا يعيرون أهمية لمطالب أمريكا، سواء كانت هذه المطالب تتعلق بقضية إيران أو الحرب في اليمن والحملة الإسرائيلية الوحشية في فلسطين المحتلة.
حجر إيران
إلا أن "بايدن" ما زال يريد تغيير وضع المعادلات الراهنة في الشرق الأوسط، وخاصة قضية الخلاف مع إيران، ولو بدفع التكاليف الباهظة، ليزيل حجر التوترات مع إيران، للوصول إلى نتيجة سعيدة للمنافسة مع الصين في آسيا؛ الأهداف التي يتم السعي لتحقيقها بلا شك في ظل الانتخابات الرئاسية عام 2024، تفسر جيدًا سبب رغبة الرئيس الأمريكي في الحفاظ على الهدوء في الشرق الأوسط قبل انتخابات 2024.
لكن في الوقت نفسه، لا يريد "بايدن" دفع تكلفة لا رجعة فيها لتحقيق هذا السلام، رغم أنه حتى الآن، وبسبب الارتباك في المفاوضات النووية، اضطر إلى التقصير في مواجهة إيران أكثر مما ينبغي؛ وعندما قررت واشنطن قضاء وقتها على مشاريع لإثارة الفوضى في شوارع إيران، بدلاً من التفاوض، لم تستسلم السلطات الإيرانية، بل وصلت بالنشاط النووي إلى النقطة التي لم تكن الولايات المتحدة تريد إلا وقفها، ولا بد أن يتحول التخصيب الإيراني بلا حدود إلى مفاوضات غير مباشرة في عمان وتقديم ضمانات كافية في أقصر وقت ممكن وفي الخطوة الأولى للإفراج عن الأصول الإيرانية بمليارات الدولارات في كوريا الجنوبية.
وتظهر هذه الرواية أن «بايدن» خفض توقعاته الدبلوماسية إلى أدنى مستوى من أجل البقاء في كرسي السلطة وتعويض هزيمته.
طريق مسدود
هكذا يتعين على واشنطن أن تتعامل مع الواقع الجديد المتمثل في أن حلفاءها السابقين لم يعودوا يرون أن مصلحتهم تكمن في عدم تقييد علاقاتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية مع أمريكا.
ومن خلال خلق هذا الفهم المشترك بأنه لم يعد بإمكانها اتخاذ العديد من التدابير لتحقيق الاستقرار والأمن في دول الشرق الأوسط، فإن أمريكا أصبحت تراقب فقط التعاون الإقليمي بين العرب وتعاونهم الجيد مع القوى الأجنبية الأخرى مثل الصين.
في الواقع، الآن يستخدم "بايدن"، مثل زملائه السابقين الذين كانوا يواجهون وضعًا دبلوماسيًا مخيبًا للآمال في المنطقة، ما يسميه دانييل إلسبيرج "آلة الطريق المسدود" في إشارة إلى فشل الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا: "بايدن لديه ما يكفي"، لذا فهو يحاول منع فشل سياسته في الشرق الأوسط، لكنه لن يمنحها المزيد من الإمكانية السياسية، فهو يحاول الحفاظ على الوضع الراهن بأقل قدر من المتاعب والنفقات، ثم يقرر ما يجب فعله حيال ذلك.