الوقت- أدّى الموقع الجيوسياسي للبحر الأحمر والتطورات السياسية والأمنية المختلفة حول هذا البحر منذ عام 2011 إلى ظهور ديناميات وتنافسات جديدة بين مختلف الجهات الفاعلة في هذه المنطقة.
لم يتم بعد تحديد قواعد اللعبة في هذه المنطقة بشكل واضح، وفي السنوات الأخيرة تحاول كل دولة قوية ومؤثرة تنفيذ نظامها الأمني الخاص بها في المنطقة.
المعادلات متعددة الطبقات في البحر الأحمر
البحر الأحمر، الذي تبلغ مساحته 438 ألف كيلومتراً مربعاً، هو البحر الخامس عشر في العالم، ومحاط بتسع دول هي السعودية ومصر واليمن وجيبوتي والصومال وإريتريا والسودان والأردن والأراضي الفلسطينية المحتل، ونظراً لربط القارات الثلاث أي إفريقيا وآسيا وأوروبا عبر البحر الأحمر، فإن هذه المنطقة تتمتع بموقع جيوسياسي وجيواقتصادي خاص.
أعطى وجود مضيقي السويس وباب المندب المهمين على جانبي البحر الأحمر أهميةً استراتيجيةً خاصةً لهذا البحر.
يعدّ باب المندب ثاني أهم مضيق في العالم، حيث يتم تقاسم حدوده المائية بين اليمن وإريتريا وجيبوتي، هذا الممر هو نقطة الاتصال بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، ويربط البحر الأحمر بخليج عدن وبحر العرب.
تتأثر ديناميات البحر الأحمر بثلاثة مستويات من الجهات الفاعلة:
1- المستوى الداخلي للبلدان: كان للحرب اليمنية والإطاحة بمبارك في مصر وهشاشة دول مثل جيبوتي وإريتريا، تأثيرها على ميزان التنافسات في البحر الأحمر في علاقة متبادلة.
2- المستوى الإقليمي: إن التقاء الأيديولوجيات الإخوانية تحت تأثير تركيا وقطر، والوهابية السعودية والإماراتية والأيديولوجية الشيعية لأنصار الله اليمنية، قد زاد من مستوى التنافسات في السنوات الأخيرة.
3- مستوى القوى الدولية: في المستوى الثالث، لكل من أقطاب القوة مثل الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا وأمريكا مصالح في هذه المنطقة، وفي هذه الأثناء فإن الاتحاد الأوروبي والصين يبذلان المزيد من الجهود للتأثير على الإجراءات القانونية والأمنية في البحر الأحمر، وذلك بسبب الحاجة إلى الطاقة.
المفاوضات القانونية للبحر الأحمر
قضايا الحرب في اليمن، تحديد التهديدات الناشئة وإيجاد حلول مشتركة، التنافسات الإقليمية، تداعيات الاضطرابات السياسية، القرصنة البحرية والإرهاب، التجارة وتوسيع الموانئ التجارية وخاصةً في شواطئ إفريقيا، تطوير البنى الأساسية الجديدة، ومشكلة المهاجرين غير النظاميين سنوياً، كانت الأساس لمختلف المفاوضات القانونية والأمنية للبحر الأحمر.
لقد قدّمت كل دولة مبادراتها الخاصة، حيث قدمت السعودية ستة مقترحات مبتكرة منذ عام 1956، وهناك دول مثل إثيوبيا وعمان، ورغم أنها ليست مطلةً على البحر الأحمر، لكنها ترى ضرورة حضورها في المفاوضات والاتفاقيات النهائية بسبب الارتباط الوثيق لمصالحها بالبحر الأحمر.
لذلك، يقترح الأوروبيون أن المبادرة المبتكرة لهذا البحر يجب أن تكون "مرنةً"، بسبب الحلقتين الثانية والثالثة لدول البحر الأحمر غير المتشاطئة، ويقترحون نموذج "مجلس بحر البلطيق" أو "الآسيان" لدول البحر الأحمر، لكن المنتقدين لا يرون نموذج مجلس بحر البلطيق فعّالاً، بسبب الفوارق في الحكومة وسكان دول البحر الأحمر.
لقد دعت السعودية في ديسمبر 2018 ست دول هي مصر والسودان وجيبوتي واليمن والصومال والأردن، ووقّعت هذه الدول اتفاقيةً لإنشاء نظام قانوني للبحر الأحمر، يهدف إلى تعزيز أمن واستثمار دول البحر الأحمر.
وقالت وزارة الخارجية السعودية في هذا الصدد: "وافقت سبع دول في السعودية على إنشاء نظام قانوني للبحر الأحمر يهدف إلى تعزيز أمن واستثمار دول البحر الأحمر".
تستثمر السعودية في مصر منذ عام 2013 لنجاح مؤسستها هذه، وإحدى أدوات السعودية هي المليارات من المساعدات لمصر، بحيث منذ عام 2013 حتى الآن، ساعدت مصر بأكثر من 10 مليارات دولار.
السبب وراء اختيار مصر هو أنها تسيطر على قناة السويس، كما أنها بوصفها دولةً عربيةً وإفريقيةً، يمكن أن تقف إلى جانب السعودية في جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي، ومع ذلك، تعتقد بعض النخب المصرية أن السعودية تسعى إلى إنشاء تحالف عسكري في البحر الأحمر لمنع الهيمنة الإيرانية.
من ناحية أخرى، تسعى السعودية إلى منع التأثير التركي والقطري في البحر الأحمر، حيث سعت تركيا إلى التسلل إلى القرن الإفريقي بعد تبنّي سياسة العثمانية الجديدة.
في عام 2017، وبعد زيارة أردوغان إلى السودان، تم التوصل إلى اتفاق عسكري - سياسي سرّي بين تركيا والسودان، حيث سمح السودان لتركيا بإعادة بناء ميناء "سواكن" التاريخي الذي كان يستخدم في العهد العثماني، وقد أثار هذا الاتفاق ردود فعل قوية من قبل السعودية والإمارات.
من ناحية أخرى، سعت السعودية أيضاً إلى تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي في المفاوضات القانونية في الرياض، وقد كتبت صحيفة "العربي الجديد" في هذا الصدد: "بالنظر إلى وصول إسرائيل إلى شواطئ البحر الأحمر، فإن تشكيل هذا المجلس يمكن أن يكون خطوةً سريةً لتطبيع العلاقات مع الكيان".
كما تسعى السعودية إلى التقليل من أهمية الخليج الفارسي ونقل جزء كبير من نفطها عبر البحر الأحمر.
الدول الإفريقية، من جهة أخرى، تتبع مساراً منفصلاً عن المبادرة السعودية، ففي عام 2017، بدأت البلدان الإفريقية والمنظمات متعددة الأطراف المشاركة في القضايا المتعلقة بالبحر الأحمر.
في هذا العام، شكّل الاتحاد الإفريقي مجلساً تنفيذياً رفيع المستوى برئاسة رئيس جنوب إفريقيا، وكانت مهمة المجلس هي وضع برنامج شامل للسلام والتنمية في القرن الإفريقي.
وفي سبتمبر 2019، عقد الاجتماع الأول لمجموعة العمل التابعة للاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة.
تعتبر مجموعة عمل الاتحاد الإفريقي أن الدول العربية تفتقر إلى الثقافة التعددية، ولا ترى المبادرة السعودية أساساً لإنشاء اتحاد شامل لدول البحر الأحمر، كما أنها ملتزمة بمنع تكوين مركز ثقل في البحر الأحمر من الدول الخليجية، بما في ذلك السعودية والإمارات والحكومة اليمنية المستقيلة.
آفاق مبادرات البحر الأحمر
موقف مجموعة عمل الاتحاد الإفريقي أقرب إلى موقف الاتحاد الأوروبي، كما أن إريتريا، التي لديها جزر في البحر الأحمر وحدود مائية مساحتها 1150 كيلومتراً في هذا البحر، كانت غائبةً عن قمة الرياض.
مصر، من ناحية أخرى، لا ترغب في دعوة إثيوبيا لحضور اجتماعات البحر الأحمر القانونية، وذلك بسبب بناء سد النهضة على طريق نهر النيل من قبل إثيوبيا.
تقع إثيوبيا على بعد 43 كم من البحر الأحمر، والوصول إلى البحر الأحمر أمر حيوي لها. لذلك، إذا لم يتم تضمين إثيوبيا في الحلقة الثانية لمبادرات الدول الساحلية، فإن إثيوبيا ستعزز من قوة الاتحاد الأفريقي، الأمر الذي سيكثف بدوره من حدة التنافسات. كذلك، تسعى إثيوبيا إلى تعزيز المحادثات الثنائية مع إريتريا حول الوصول إلى البحر الأحمر.
التنافسات الإقليمية والدولية المكثفة في البحر الأحمر، تجلّت في تعدد القواعد العسكرية في هذه المنطقة، حيث لأمريكا قاعدة في اليمن وقاعدة في جيبوتي، والصين التي تحاول دائماً تجنّب الوجود العسكري الاستفزازي خارج شبه الجزيرة الكورية، قد أنشأت قاعدةً عسكريةً في جيبوتي، بسبب الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر.
كما أن هناك قاعدةً لكل من الكيان الإسرائيلي واليابان في إريتريا. وتركيا أيضاً لها قاعدة في الصومال، وللسودان والاتحاد الأوروبي قاعدتهما في جيبوتي.
بالنظر إلى الحجم الكبير للتنافس السياسي والعسكري والإجراءات السعودية الاستفزازية مثل مناورة "الموجة الحمراء" مع بعض الدول العربية، فإن احتمال إنشاء اتحاد قانوني وأمني فعال في البحر الأحمر تقبله جميع الدول المستفيدة، بعيد المنال على المدى القصير والمتوسط.