الوقت- بعيداً عن تكهنات الدوافع السياسية والمآرب الشخصية التي تقف وراء الانتفاضة الجنوبية في وجه العدوان الإماراتي وأدواته الداخلية ممثلة في حكومة ما يسمى بـ "الشرعية"؛ وفي منأى عن الخوض في تفاصيل مواقف أولئك الذين اختزلوا الجنوب في أسمائهم ومواقفهم محاولين بصورة أو بأخرى استغلال الأحداث الشعبية وامتطائها، تبرز المعاناة الحقيقية التي يكابد ظروفها أبناء الجنوب الأحرار ويتقاسمون ويلاتها الاقتصادية والأمنية تحت وطأة المحتل الجاثم على القرار والهوية، والقابض على بوصلة المصالح الشعبية بشقيها المؤسسي والخاص. فالنموذج السيئ الذي قدمته الإمارات في إدارة المحافظات الجنوبية وبعض المدن الساحلية المحتلة خلق وعياً مستحدثاً في أوساط المغرّر بهم من أبناء الجنوب ما جعلهم يعيدون حساباتهم الداخلية كـ"مكونات سياسية" أو كـ"أفراد" ينشدون المواطنة الهادئة التي تمنحهم أبسط حقوقهم الإنسانية والاجتماعية، أما أولئك الملتحقين بميليشيات العدوان ومرتزقته في جبهات الشمال فقد آل أمرهم بين خياري العودة إلى عدن وما حولها، أو الالتحام والالتفاف حول المجاهدين اليمنيين من أبناء الجيش واللجان الشعبية وخوض القتال معهم ببسالة دفاعاً عن أرضهم وعرضهم بعد أن ادركوا ماذا ينتظرهم حال تمكّن الغزاة من احتلالهم والسيطرة على قرارهم وحياتهم كما فعل بهم في مسقط رأسهم دون رادع، ويرون أيضاً كيف أن إخوانهم الذين نزحوا من مدينة الحديدة بفعل المعارك الأخيرة، نزح جميعهم إلى المحافظات والمدن الواقعة تحت سلطة حكومة صنعاء، وسيطرة "أنصار الله"، ولسان حالهم: "ننزح حيث نشعر بالأمان"، في المقابل تعرّض النازحون إلى المحافظات الجنوبية لأسوأ أساليب الإذلال والامتهان، وتم طردهم وترحيلهم، وعدم السماح لهم بدخول مدن الجنوب، بعد أن ظلوا عالقين في النقاط الأمنية لأيام، في مشهد يجسّد مدى استفحال ثقافة الاحتلال العدوانية والإقصائية، وتعمق قيم الكراهية والانقسام التي حلّت بفعل العدوان محلّ مشاعر الحب والأخوة، وقيم التعايش والتسامح والسلام.
هي ثورة جياع إذن شهدتها وستشهدها كل المحافظات الجنوبية بعد تدهور أوضاعها المعيشية نتيجة انهيار العملة اليمنية أمام العملات الأخرى، وهو ما دعا بالمواطن الجنوبي إلى كسر حاجز الصمت المؤطر بالخنوع للتعبير عن تنديده لما يجري أمام لا مبالاة غريبة من سلطات أمر الواقع المهجنة التي تتعمد باستمرار تجاهل الأصوات الشعبية الغاضبة، وهو ما ينبئ بتوسع نطاقها وتحولها إلى ثورة جياع عارمة لاقتلاع حكومة هادي والتحالف من جذورها، خصوصاً وقد تعمّدت بدماء شهداء سقطوا في موجة الغضب التي شهدتها شوارع مدينة عدن، الأحد، والتي صبّ فيها آلاف الجنوبيين سخطهم البالغ من التدهور المريع للعملة اليمنية أمام الدولار دون مبررات، إلى جانب ذلك أحرق المتظاهرون الإطارات في الشوارع العامة وأغلقوا الطرقات ورددوا هتافات منددة بفساد حكومة هادي وفشل التحالف في اليمن، في حين عمّ العصيان المدني جميع زوايا المدينة التي انتفضت في وجه الموت البطيء الذي لاح كابوسه فعلياً في حياتها وسلوكها.
الناشطون السياسيون الجنوبيون شاركوا في هذه الثورة الشعبية وشكّلوا أحد أعمدتها، فهم من ارتفعت أصواتهم مراراً وتكراراً، واليوم تتحد أصواتهم مع إخوانهم المنتفضين، حيث غرّد أبرز الناشطين السياسيين الجنوبيين "أحمد الصالح" بـ "أن حال المواطن في المحافظات الجنوبية أصبح أسوأ مما كان عليه من قبل، وعلى الشعب في الجنوب اليوم أن ينتفض ضد الجميع فلم يعد لديه ما يخسره، وأشار "الصالح" إلى أن دماء أبناء الجنوب وصمودهم هو من حقق انتصاراً عسكرياً للتحالف وعاصفة الحزم يتغنى به أمام العالم، لكن إعادة الأمل فشلت فشلاً ذريعاً ولم تحقق الحد الأدنى منها، بل تلاشى الأمل في المناطق المحررة، ودعا الناشط الجنوبي كل أبناء المحافظات الجنوبية مشاركة أهالي عدن في حراكهم الشعبي السلمي حتى تحقيق مطالبهم المتمثلة في العيش الكريم والمواطنة العادلة وإقالة الفاسدين في حكومة هادي.
أكثر من ثلاثة أعوام ألقت بظلالها على الجنوب وتحديداً منذ ما يسمى بـ"تحرير عدن"، عانى فيها الجنوبيون الويلات، ويوماً بعد يوم تزداد حالتهم سوءاً وتدهوراً ومرضاً وفقراً، وسرقت منهم السكينة والطمأنينة وسط الاغتيالات والتفجيرات وحالات الاختطاف والاغتصاب والإخفاء القسري، حتى إعادة الإعمار والمبالغ التي رصدها تحالف العدوان وسلّمها لحكومته في عدن ذهبت بعيداً لمناطق لم تشهد أي صراع يذكر بفعل وزراء نافذين في الحكومة، وأخرى حطت رحالها في جيوب المنتفعين وأرصدة مافيا الفساد والدمار على حساب الشعب اليمني وكرامته وتطلعات مستقبله المسروق من عتاولة الموت وجهابذة الارتزاق.
بقلم: فؤاد الجنيد