الوقت - لا يدّخر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أي جهد في معاداة إيران وعرقلة تقدّمها على جميع الأصعدة ومعاقبة كل من يبني علاقات استراتيجية معها أو يدعمها، وقد تمكّن ترامب إلى حدود معينة من خلال الضغط على أوروبا وبعض دول الشرق، بأن يعكّر صفو العلاقات بين طهران وهذه الدول، في محاولة منه لعزلها وإرضاخها بالقوة، لكن زعيم البيت الأبيض حتى اللحظة أخطأ الهدف والمستهدف، فخيارات إيران لتنفيس "منطاد" العقوبات الأمريكية أكثر مما كان يتصورها ترامب، فلهذا البلد الشرق أوسطي جسور تواصل وشبكات من العلاقات الاستراتيجية لا تعدّ ولا تحصى وحركة الدبلوماسية الإيرانية هذه الأيام أصدق أنباءً مما يتبجح به بعض الإعلام.
لنبدأ من آخر هذه التحركات الدبلوماسية والتي قام بها مستشار قائد الثورة الإسلامية للشؤون الدولية ومبعوثه الخاص إلى روسيا علي أكبر ولايتي، الذي التقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو يوم أمس الخميس وسلّمه رسالتين الأولى شفهية من قائد الثورة الإسلامية وأخرى خطّية من الرئيس حسن روحاني.
جوهر اللقاء.. رسائل دبلوماسية وأخرى عسكرية وحلول اقتصادية
الاقتصاد
لا يمكن عزل الظروف الاقتصادية لأي بلد عن السياسة، حيث تسعى الأخيرة لتطويع أدواتها في تحسين ظروف المواطن المعيشية، وهذا جوهر الناشط الدبلوماسي الإيراني الملحوظ هذه الأيام، ولا يخفى على أحد عمق العلاقة بين إيران ودول الشرق ولاسيما روسيا التي تجمعها معها مصالح مشتركة على جميع الأصعدة، وقد ظهر ذلك في تفاصيل اللقاء الذي جمع الرئيس الروسي مع مبعوث قائد الثورة الإسلامية للشؤون الدولية.
اللقاء جاء مثمراً ويحمل أبعاداً اقتصادية وسياسية وعسكرية للداخل والخارج، وبما أننا نتكلم عن الاقتصاد فلابد أن نمرّ على نتائج هذا اللقاء من بوابة الاقتصاد، أعلن ولايتي أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكد استعداد بلاده لتوظيف استثمارات تصل إلى 50 مليار دولار في قطاع النفط الإيراني، حيث إن هذا الرقم مهم وبإمكانه تعويض نشاط الشركات التي غادرت البلاد.
وضمن اللقاء الذي استمر ساعتين استعرض الرئيس بوتين تقريراً أفاد بارتفاع التبادل التجاري بين روسيا وإيران 36 بالمئة في الثلث الأول من عام 2018، وأوضح ولايتي أن شركة روسية مهمة في طور إبرام عقد بقيمة 4 مليارات دولار مع وزارة النفط الإيرانية إضافة إلى شركتين مهمتين أخريين بدأتا التفاوض، ومن المرشح أن تصل قيمة العقود لـ 10 مليارات دولار.
أما نووياً فقد بيّن ولايتي أنه بمساعدة روسيا أنشأت إيران مفاعلاً بطاقة 1000 ميغاواط فضلاً عن أنه يتم بناء مفاعلين آخرين في إيران حالياً، وأن الرئيس بوتين على علم كامل بتفاصيل العمليات التنفيذية لهما، ولفت إلى التعاون القائم بين إيران وروسيا في قطاع سكك الحديد مبيّناً أن المقدمات التنفيذية لكهربة خط سكك الحديد "اينجه برون" (شمال شرق) – "كرمسار" (وسط) بدأت في مدينة ساري (شمال)، وأن الرئيس بوتين أبدى استعداده لاستثمار روسيا في هذا المجال.
وأشار إلى أن بوتين أكد أهمية ممر النقل الشمال - الجنوب وسان بطرسبوغ – جابهار (جنوب شرق ايران)، لنقل السلع من آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا عبر إيران الأمر الذي يوفّر 40 بالمئة من الزمن والتكاليف.
هذا غيض من فيض ومقدمة جيدة وأخبار غير سارة للرئيس الأمريكي الذي ظنّ أن بإمكانه محاصرة بلاد لا تعيش في ثمانينيات القرن الماضي كما يعتقد ترامب، إيران اليوم لا تشبه إيران الأمس فجذورها في الدبلوماسية والسياسة والعلاقات الاستراتيجية بُنيت بحكمة وفقاً لمبادئ الثورة التي نشأت عليها، ما جعلها لا تشبه غيرها من الدول المارقة، وإذا كان يعتقد ترامب أنه يستطيع أن يفعل ما يريد عليه أن يعيد حساباته فكفة الأعداء اليوم لهذه السياسة النرجسية رجحت على كفة الأصدقاء وتصريحات قادة العالم تظهر ذلك، ولنذكر مثلاً تصريح المستشارة الألمانية العام الماضي الذي قالت فيه إن وصول ترامب إلى البيت الأبيض يحتم على أوروبا أن تتولى أمورها بنفسها.
العسكر
ما هي الدولة التي دخلتها أمريكا وحل فيها السلام؟!، سوريا؟ العراق؟ فيتنام؟ ليبيا؟ أفغانستان؟ والقائمة تطول، دمرت واشنطن بلاداً بأكملها تحت خديعة "نشر الديمقراطية" ولكن كيف لفاقد الشيء أن يعطيه، وما أغاظ أمريكا أن دولة إقليمية مثل إيران استطاعت أن تُساهم بشكل كبير في إخراج شبح الإرهاب من العراق وسوريا وتحافظ على العمود الفقري لهاتين الدولتين، الأمر الذي عجزت عنه واشنطن لأكثر من عشر سنوات في العراق، ومع دخول إيران سوريا جنّ جنون واشنطن لكونها تعلم أن سياستها وكل من يلّف في محيطها سيُفضح أمره وهذا ما حصل، وتمكّنت إيران مرة أخرى بأن تثبت للعالم أجمع بأنها قادرة على حفظ أمن هذه المنطقة ومنعها من الدخول في أتون فوضى ترضي غرائز واشنطن وسياستها التخريبية.
وعلى عكس ما يشاع بأن الأمور بين روسيا وإيران متوترة في سوريا، أكد ولايتي في حديث للتلفزيون الإيراني أن الرئيس بوتين شدّد على أن التعاون الإيراني الروسي يستهدف دعم الحكومات الشرعية لدول المنطقة كالعراق وسوريا، وأن روسيا تدافع عن وحدة أراضي تلك الدول، ولفت إلى موافقة الرئيس الروسي على مواصلة التعاون القائم بالمجال الدفاعي والسياسي مع إيران، وشدد ولايتي على أن الجانبين أكدا بالاجتماع أن مفاوضات آستانة للسلام في سوريا ستتواصل بين مساعدي وزراء خارجية إيران وتركيا وروسيا.
وحول القضايا الدولية أشار ولايتي إلى أن بوتين أكد عدم اعترافه بالـ "عقوبات" التي تحاول فرضها أمريكا وآخرون على إيران، وشدد على عدم اعترافه والتزامه بإجراءات الحظر خارج إطار قرارات مجلس الأمن الدولي.
بالمحصلة مياه إيران عصيّة على السمك الأمريكي، ومحاولة تعكير الأجواء لن تعود بالفائدة على واشنطن، والاستمرار بالتهديد والوعيد أمر غير مجدٍ في ظل تحالفات استراتيجية تنسجها طهران مع الشرق والغرب، وليست كل الأبواب مفتوحة للترحيب بأمريكا والتاريخ يثبت ذلك.