الوقت- رغم وجود العديد من الخلافات بين ضفّتي الأطلسي، الأوروبية والأمريكية، إلا أن هناك توافقاً استراتيجياً يتمثّل في تعاون كلا الطرفين على ألّا يخرج الوضع العالمي بهيكلته الحالية عن السيطرة، وبالتالي نرى تعاوناً أوروبياً أمريكياً شبه تام في مواجهة أي قوّة جديدة لا تمسك واشنطن بزمام أمورها.
السياسة الأمريكية الأوروبية المشتركة تتجلّى اليوم بشكل واضح في علاقة كلا الطرفين مع تركيا، ففي حين ندّد متحدث الرئاسة التركية "إبراهيم قالن" بنشر مجلة فرنسية صورة للرئيس رجب طيب أردوغان على غلافها مرفقة بعبارة "الدكتاتور"، قائلاً: إن "الأيام التي كانت تتلقى تركيا فيها أوامر منكم أصبحت من الماضي، لا يمكنكم استعادة تلك الأيام عبر قول دكتاتور"، أكّد وزير الخارجية التركي "مولود جاويش أوغلو" أن تركيا ليست دولة يمكن كسرها من خلال اللعب بأسعار الصرف.
لم يقتصر الغمز التركي حول "الليرة"، ودون التسمية، على وزير الخارجيّة، فقد قال رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم: "نحن على علم بمصدر التلاعب (بسعر الليرة)، ونقول لهم وللمتعاونين معهم في الداخل: لن تنجحوا الآن كما لم تنجحوا بالأمس، مهما فعلتم ومهما حكتم من مكائد".
كلام المسؤولين التركيين يبدو واضحاً، ولاسيّما أن يلدريم ذكّر المتلاعبين بما فشلوا فيه بالأمس من مكائد في إشارة واضحة إلى محاولة الانقلاب التي أثارت خلافات كبيرة بين واشنطن وأنقرة، بدءاً من بيان السفارة الأمريكية ليل محاولة الانقلاب الفاشلة، مروراً بمعلومات حول دعم أمريكي للانقلابين، وليس انتهاءً بحماية أمريكا للداعية التركي فتح الله غولن، وعدم تسليمه لأنقرة. كذلك، ليس من الصدفة أن يتمّ التلاعب بسعر العملات في روسيا وإيران وتركيا حيث شهدت الدول الثلاث خلال الشهر الماضي هبوطاً في أسعار الصرف، ولعل القاسم المشترك الأبرز بين هذه الدول هو عداؤها لأمريكا التي تتحكّم بزمام الاقتصاد العالمي.
بموازاة ذلك، وبعد دعم انتقاد أردوغان لواشنطن بسبب انسحابها من الاتفاق النووي وقوله إن هذا الأمر سيولّد أزمات جديدة، طالت العقوبات الأخيرة التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية على إيران تركيا، وذلك بعد أقلّ من شهر على توعّد الإدارة الأمريكية بمعاقبة كل من لا يلتزم بالموقف الأمريكي تجاه إيران.
ولكن لماذا كلّ هذا العداء لتركيا التي تعدّ أحد أبرز أعضاء الناتو؟ لماذا ألغت أوروبا مسار الانضمام التركي إلى الاتحاد وأعادته إلى نقطة الصفر؟
لا شكّ أن طموحات أردوغان التي تخطّت الخطوط الحمراء التي رسمتها واشنطن بدرجة أولى، وأوروبا بدرجة أقل، تفسّر طريقة التعاطي الغربية مع الرئيس التركي الطامح لإمبراطورية عثمانيّة جديدة فقد عمد أردوغان خلال العامين الماضيين إلى التقارب بشكل كبير مع إيران وروسيا في الأزمة السوريّة بخلاف إرادة واشنطن، وقد أفرز هذا التقارب السياسي صفقات اقتصادية وعسكرية أهمها صفقة الـ S400.
تدرك أمريكا جيّداً خطورة وجود رئيس قوي لدولة تملك واقعاً جيوسياسياً لا يمكن تجاهله في الشرق الأوسط، وبالتالي منذ أن برزت تطلّعات أردوغان التي لا تتقاطع مع مصالح واشنطن بل تتعارض معها أيضاً، لعبت أمريكا دوراً خفياً، وقوياً، في الانقلاب الفاشل عام 2015، لتشكّل هذه المحاولة التي هدفت للإطاحة بأردوغان نقطة انعطاف في مسار أردوغان السياسي الذي يتّسم بالكثير من البراغماتيّة لتحقيق مصالح تركيا، حينها، تماهى الموقف الأوروبي مع الأمريكي وانتقدت القارة العجوز سياسات أردوغان تجاه المعارضين، وتوتّرت العلاقة مع ألمانيا بشكل كبير وبعض الدول الأوروبية قبل الانتخابات التركيّة الأخيرة وبعدها، وكانت النتيجة منع تركيا من الانضمام للاتحاد، الأمر الذي صبّ في مصلحة الشراكة الروسيّة الإيرانية التركية في الشرق الأوسط، مؤخراً برزت ضغوط أمريكية لمنع أنقرة من الحصول على المقاتلة الحديثة "F- 35" في حال أبرمت صفقة الصواريخ مع روسيا، بل وصل الأمر إلى حدّ التهديد بفرض العقوبات.
سؤال رئيسي آخر لا يمكن التغافل عنه يتعلّق بأسباب اللجوء التركي إلى روسيا، الإجابة تكمن في عدم الثقة الغربية بأردوغان، ولاسيّما أنها بلد إسلامي، والناتو يسعى لتجيير طاقته البشرية خدمة لمصالح واشنطن والاتحاد الأوروبي لا العكس، فعلى سبيل المثال لم توافق أمريكا على أي صفقة مع تركيا لشراء منظومة الباتريوت سابقاً، ولكن بدأ الحديث عن صفقة محتملة إذا ما تخلّى أردوغان عن صفقة الـ S400 مع روسيا. المنظومات الصاروخية الموجودة على الأراضي التركية تخضع لإدارة الناتو لا الجانب التركي، وبالتالي لم يسمح الناتو بامتلاك تركيا لمنظومة صواريخ مستقلّة.
يبدو واضحاً أن المحاولات الأمريكية تهدف بشكل رئيسي لليّ ذراع الرئيس التركي الذي حاول نظيره الروسي استمالته مؤخراً مؤكداً أنه من الصعب ممارسة الضغوط عليه، وإن حدث فإنها تزيده شجاعة.