الوقت – أفصحت فرنسا منذ برهة من الزمان عن عزمها على الاعتراف بالدولة الفلسطينية في شهر سبتمبر من العام الجاري؛ قرارٌ دوّى صداه في أرجاء العالم وأثار حفيظة المحافل الدولية، وفي أعقاب هذا المنعطف التاريخي، تداعت بريطانيا لإعلان مماثل، مؤذنةً بسلوك ذات النهج إذا استعرت نيران الحرب في غزة، أما برلين، فرغم تلفّعها برداء الحذر وتأكيدها على انتفاء الخطط العاجلة، فقد ألمحت إلى احتمال دراسة هذه المسألة الجوهرية.
هذه المواقف المستجدة أضرمت في أذهان المراقبين شرارة التكهن باحتمال تبني القوى الأوروبية الثلاث منحىً مغايراً تجاه الصراع المحتدم بين الكيان الصهيوني والشعب الفلسطيني، يستجلي هذا التحليل خفايا هذا التحول المرتقب وما يترتب عليه من تداعيات.
بواطن الدوافع والبواعث
إن الخيط الناظم بين الدول الأوروبية الثلاث لاتخاذ هذه الخطوة المصيرية، لا يعود إلى تبدّل في المنهج أو سعي حثيث لصون المواثيق الدولية، بل يضرب بجذوره في تربة الضغوط الداخلية والمكانة الدولية لهذه البلدان.
باريس وتوازنات السياسة
سدّدت باريس على مدار العام المنصرم سهام النقد اللاذع مراراً وتكراراً نحو سياسات حكومة نتنياهو، وإن ظلت في مفترقات الطرق الحاسمة، كاعتداء الكيان الصهيوني على إيران، متشبثةً بمقولة “حق الدفاع المشروع” لتل أبيب.
يستشفّ ماكرون أن الاعتراف بفلسطين، في ظل الخراب المستطير الذي عصف بغزة والخناق المتصاعد على الضفة الغربية، لن يسهم عملياً في إقامة الدولة الفلسطينية، لذا، فإن هذا القرار يمثّل مناورةً رمزيةً ضاغطةً على الكيان الصهيوني أكثر منه إجراءً استراتيجياً؛ مبتغاه لجم جماح الحرب الضروس وترميم صورة الدبلوماسية الفرنسية في مرآة الرأي العام الداخلي والدولي.
لندن وأثقال الضمير
جابهت حكومة حزب العمال بقيادة ستارمر خلال الأشهر المنصرمة، عواصف هوجاء من الضغوط من قبل الرأي العام والمنابر الإعلامية وأرباب التشريع، بل شطر وافر من قاعدته الحزبية بشأن القضية الفلسطينية، فلقد جهر مؤخراً 221 نائباً من أصل 650 في مجلس العموم بمطالبتهم الرسمية بالاعتراف بفلسطين، وستارمر، الذي ناصر الكيان الصهيوني علانيةً وسراً طوال العام المنصرم، يروم الآن تخفيف وطأة الضغط السياسي والاجتماعي، معلناً أن بلاده ستنفذ هذا القرار في سبتمبر إذا لم تخمد أوار الحرب.
برلين وثقل التاريخ
مثّلت برلين منذ اندلاع شرارة حرب غزة أحد أبرز المناصرين وأشدّهم حماسةً للكيان الصهيوني، غير أن إعلان استعدادها لدراسة الاعتراف بفلسطين، رغم عدم تقييدها نفسها بأغلال جدول زمني، يعدّ إيذاناً بتبدل نبرتها تجاه هذه القضية المحورية.
ومع أن الحكومة الألمانية تنوء بأثقال الرأي العام بدرجة أقل من نظيرتيها الفرنسية والبريطانية، إلا أن دعمها المطلق للكيان الصهيوني ألحق ضرراً بالغاً بمكانتها الدولية، لذا، تسعى برلين، عبر تقليص دعمها تدريجياً، إلى التضييق على نتنياهو لوضع حد للحرب، وتخفيف الضغط المتصاعد من الدول الأخرى.
في مآلات الاعتراف ومنعطفاته
إن أبرز التداعيات قريبة المدى لهذا القرار المفصلي، تتجلى في تخفيف الضغط الداخلي عن كاهل الحكومات الأوروبية، وتصعيد الضغط الدبلوماسي على الكيان الصهيوني لإعادة النظر في سياساته إزاء حرب غزة. كما قد يفضي هذا المسلك إلى زعزعة أركان حكومة نتنياهو وإذكاء جذوة التيارات المناوئة داخل الكيان.
وعلى الصعيد الدولي، قد يُفضي هذا التطور إلى تصدع في جدار العلاقات الأوروبية-الأمريكية، ولا سيما إذا اعتلى دونالد ترامب سدة الحكم في واشنطن مستقبلاً، إذ قد يتخذ من هذا القرار ذريعةً للتضييق سياسياً واقتصادياً على الاتحاد الأوروبي.
خاتمة القول
إن الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل فرنسا وبريطانيا، وحتى التحول المشوب بالحذر في لهجة ألمانيا، يمكن اعتباره مزيجاً من المناورات الدبلوماسية وفن إدارة الرأي العام أكثر منه علامةً فارقةً على تحول جذري في نهج السياسة الخارجية الأوروبية، تجاه الصراع المحتدم بين الكيان الصهيوني والشعب الفلسطيني.
ورغم أن هذا المنحى قد يشكّل ضغطاً رمزياً على حكومة نتنياهو ويقدّم صورةً أكثر توازناً للسياسة الخارجية لهذه الدول في المدى المنظور، فإن غياب خارطة طريق عملية لتحقيق السيادة الفلسطينية الفعلية، سيحول - على الأرجح - دون تغلغل تأثيره في مسارات السلام. وفي الوقت عينه، قد تفضي مثل هذه الخطوات إلى تصدعات في نسيج العلاقات الأوروبية-الأمريكية، وتمهّد السبيل لتحولات سياسية جوهرية في قلب الكيان الصهيوني.