الوقت – لقد استفحلت الكارثة الإنسانية في قطاع غزة إبان الشهور المنقضية، ولا سيما مع تفاقم المجاعة ونضوب المؤن الغذائية، حتى بلغت ذروتها المفجعة وقمة هرمها المأساوي، هذا الوضع المروع، الذي هو ثمرة حصارٍ ضُرب على القطاع منذ أمد بعيد وحروب طاحنة، أثار ردود فعل متباينة في أوساط الصهاينة وصفوفهم، ففي حين ندّد بعضهم بسياسات حكومة هذا الكيان، واصفين الحصار بأنه فعل يتنافى مع أبسط قيم الإنسانية، ما زالت فئة أخرى تذود بشراسة عن الإجراءات الوحشية لهذا الکيان وتنافح عنها بكل ما أوتيت من قوة.
يعكس هذا الانشقاق في المواقف، تعدد المشارب وتنوع المذاهب داخل نسيج المجتمع الصهيوني ومؤازريه عبر العالم، فمن جهة، يرفع نشطاء حقوق الإنسان والشخصيات الناقدة أصواتهم مطالبين بفك أغلال الحصار على الفور، بعدما نشروا تقارير تقشعر لهولها الأبدان عن معاناة المدنيين في غزة، ومن جهة مقابلة، ترفض التيارات اليمينية والمتطرفة، متذرعةً بذريعة التهديدات الأمنية الواهية، أي مساعٍ لإغاثة أهل القطاع المنكوب.
إن تمحيص هذه الردود المتناقضة لا يميط اللثام فقط عن الخلافات المستعرة داخل أروقة الكيان الإسرائيلي، بل يسلط الأضواء الكاشفة أيضاً على الدور الذي يضطلع به المجتمع الدولي ووسائل الإعلام في التأثير على دفة الرأي العام وتوجيهها.
کتب موقع “هآرتس” الصهيوني في تقرير لاذع حول مأساة غزة: “تحاول إسرائيل أن تلقي بتبعات الكارثة على كاهل الأمم المتحدة، بيد أنها هي من أشعل فتيل المجاعة في قطاع غزة، والحقيقة الناصعة تشهد بأن حالة المجاعة المستشرية في غزة، إنما هي نتاج خطوات الحكومة المتهورة وإجراءات الجيش الطائشة”.
وأماطت صحيفة “إسرائيل هيوم” اللثام أيضاً عن اعتراف مسؤولي هذا الكيان بالوضع المتأزم، وكذلك عن سخط شريحة أخرى من الصهاينة من إرسال قوافل الإغاثة الإنسانية إلى غزة: “أفصح مصدر لصحيفة إسرائيل هيوم قائلاً: إن التكالب المحموم على شاحنات الإغاثة ينبئ بجلاء عن وجود خصاصة شديدة في الغذاء، كما أن تصاعد الأسعار الصاروخي يؤكد هذه الحقيقة الدامغة”، وعلى الرغم من هذه التصريحات الجلية، انبرى اليمين الإسرائيلي المتشدد ينتقد بضراوة خطة السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة المحاصر.
كما كشفت هذه الصحيفة النقاب في تقرير يثير الدهشة والاستغراب، عن البواعث الخفية والدوافع المضمرة وراء السماح بدخول قوافل المساعدات الإنسانية إلى غزة، والتي لا تعدو كونها تمهيداً للطريق أمام استمرار إبادة الشعب الفلسطيني، إذ قالت: “يتصدى المقربون من نتنياهو للانتقادات المتعلقة بالوضع المأساوي في غزة قائلين: لا نجيز المجاعة في غزة، لأننا نحن والأمريكيون نبتغي أن تظل هناك شرعية مزعومة لمواصلة آلة الحرب في سحق أهل غزة!”
وتناقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية أصداء المأساة المستفحلة وأنباء القحط المستشري في غزة على الساحة الدولية، فقالت: “أطياف تتحرك في غزة: صور تقشعر لها الأبدان يشهدها العالم، ودلائل ساطعة على فلذات أكباد يقضون نحبهم جوعاً”، وتكمن وراء سيل الضغوط المتصاعدة على الكيان، فيض من التقارير عن الكارثة المستعرة في أرجاء القطاع، وقد اعتلت صحيفة “نيويورك تايمز” صدر صفحاتها بوصف “صبية ناحلين ملقين على الثرى بلا حراك، بأطراف واهية كأغصان ذاوية”، كما أوردت في صفحاتها خبر “رضيع لم يتجاوز شهره الحادي عشر لا يزن سوى أربعة كيلوغرامات، وأمهات قد جفّ ضرعهن عن الإرضاع، وأطباء يكابدون الجوع أنفسهم، لا يقتاتون إلا على عشر ملاعق من الأرز في اليوم الواحد”.
يعكس هذا الأمر التباين الصارخ أيضاً في فضاء الانترنت، حيث يرفع بعض المستخدمين الصهاينة راية الاحتجاج على الوضع القائم، بينما يناصر آخرون هذه السياسة الهمجية ويذودون عنها.
وقد نشرت زهافا غالون صورةً لأطفال غزة وخطت بقلمها: “أطفال يتساقطون صرعى الجوع، وآلة الحرب الإسرائيلية تصرّ على نفي وجود مجاعة في غزة، كيف نسوغ هذا المشهد المروع لضمائرنا؟ إن لم يكن هذا الوضع المزري مجاعةً، فبأي وصفٍ نصفه إذن؟”
وأفصح الصحفي الصهيوني أوهد حمو في لقاء صحفي قائلاً: “شبح الجوع يخيّم على غزة - يتعين علينا أن نجهر بهذه الحقيقة بصوت جلي وصريح: ثمة بشر لم يذوقوا طعاماً لأيام متوالية، لا ينساب قوت من حناجرهم، نتحدث عن وهنٍ يستشري ودوارٍ يعصف وأجسادٍ خسرت عشرات الكيلوغرامات، حتى لو دخلت المعونات الكافية القطاع، فالعلة تكمن في آلية التوزيع [التي تقبض عليها بيد من حديد قوات الاحتلال]، ولهذا السبب تُحرم مئات الألوف من لقمة العيش، في أرجاء قطاع غزة، لا يشغل الناس سوى هاجس واحد - التنقيب عن فتات الطعام، وبعضهم لا تطاله يد العون إطلاقاً".
أما الوزير الصهيوني السفاك إيتمار بن غفير، الذي لم تفتر همته يوماً عن اضطهاد الشعب الفلسطيني، فقد أنكر استشراء المجاعة في غزة قائلاً: “كان ينبغي وقف قوافل المعونات إلى غزة منذ أمد بعيد، لا وجود لمجاعة في غزة، جلّها اختلاق إعلامي، وما تبقى منها مسؤولية حماس أن تطعم هؤلاء؛ لقد رفعت إلى رئيس الوزراء التماساً لعقد مباحثات عاجلة حول هذه القضية، وأرجو أن يلقى طلبي آذاناً صاغيةً".
وفي السياق عينه، أوردت وسائل الإعلام العالمية أن ما يربو على ألف حاخام من شتى بقاع العالم، وجّهوا أصابع الاتهام إلى الكيان الصهيوني بنشر الجوع في غزة، وطالبوا تل أبيب بفتح المعابر للمساعدات الإنسانية إلى المنطقة المنكوبة.
وأعلن الحاخامات والمفكرون اليهود من الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي والأراضي المحتلة، في رسالة مفتوحة ذيّلوها بتواقيعهم، أن “الشعب اليهودي يقف على مفترق طرق أخلاقي خطير".
وجاء في طيات الرسالة: “إن القيود الصارمة المفروضة على المساعدات الإنسانية في غزة، وسياسة سدّ منافذ الغذاء والماء والدواء عن السكان المدنيين المكلومين، تتناقض تناقضاً صارخاً مع القيم الجوهرية لليهودية كما عهدناها".
وناشد الحاخامات الكيان الصهيوني “فتح الأبواب على مصاريعها للمساعدات الإنسانية” مع الحيلولة دون وصولها إلى أيدي حركة حماس، كما طالبوه “بسلوك جميع السبل المتاحة فوراً لاستعادة الأسرى وإخماد نيران الحرب".
وقد نُشرت هذه الرسالة في غرة يوم الجمعة الماضي، وتخطى عدد الموقعين عليها عتبة الألف بحلول فجر يوم الاثنين.
وأفاد موقع “واللا” الإخباري أن عمداء خمس جامعات مرموقة في الكيان الصهيوني، وجهوا في صباح هذا اليوم (الاثنين) رسالةً لاذعةً إلى “بنيامين نتنياهو”، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، يناشدونه فيها وضع حدٍ لمأساة المجاعة والجوع المروعة المستشرية في غزة، والتي تفتك بالأبرياء فتكاً ذريعاً، بمن فيهم الأطفال والرضع.
ووفقاً لما جاء في التقرير، طلب رؤساء جامعة “تل أبيب” والجامعة “العبرية” والجامعة المفتوحة و"معهد وايزمان" وجامعة “تخنيون” في رسالتهم، من نتنياهو أن يصدر أوامره إلى الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى باتخاذ تدابير عاجلة لتطويق الأزمة الإنسانية، والحؤول دون إلحاق الأذى بالأبرياء.
وحسب ما صرح به فيليب لازاريني، رئيس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة، فإن قرابة تسعين ألف امرأة وطفل يرزحون تحت وطأة سوء التغذية، وهو وضعٌ تصفه منظمات الإغاثة بأنه مجاعة من صنع البشر، نجمت عن طوق الحصار الخانق الذي يضربه الكيان الصهيوني حول القطاع.