الوقت - بينما يرزح أهل غزة تحت نير المجاعة وسياط الجوع المسلطة عليهم من قبل الكيان الصهيوني، وتتساقط أرواحهم الطاهرة يوماً بعد يوم في طوابير انتظار لقمة العيش تحت وابل القذائف وشظايا الموت المنهمرة من سماء الغدر، يواصل نتنياهو، ضارباً بعرض الحائط كل النداءات الدولية والصيحات العالمية، إحكام قبضته على خناق المدنيين في غزة، وقد تجاوز في الأيام الأخيرة كل الخطوط الحمراء، مفصحاً عن عزمه شنّ عملية برية لاقتحام القطاع واحتلاله بالكامل، وما التصاعد المريع في قافلة الشهداء وأفواج الجرحى، إلا برهان ساطع على انطلاق هذا المخطط الجهنمي.
وفي غمرة هذه الأحداث الدامية، تكشف آخر التسريبات من دهاليز المفاوضات بحضور الوسطاء، أن حركة حماس أبدت موافقتها على عقد هدنة لمدة ستين يوماً مقابل الإفراج عن عدد من الأسرى الإسرائيليين الأحياء، بيد أن تل أبيب تنفض يدها من هذا العرض وتتنكّب عنه، وللإماطة عن لثام أهداف نتنياهو الخفية من إذكاء أوار جولة جديدة من العمليات العسكرية الشاملة، أجری موقع “الوقت” حواراً مع السيد هادي سيد أفقهي، الخبير البارز في شؤون السياسة الدولية.
في دوافع الرفض وخفايا المقاصد
استهلّ السيد هادي سيد أفقهي حديثه، رداً على سؤال حول مقترح حماس الأخير بوقف إطلاق النار لمدة ستين يوماً ومعارضة نتنياهو له، والبواعث الجوهرية والمرامي الاستراتيجية وراء هذا الموقف المتصلب، فقال: “إن سياسة نتنياهو العامة تقوم على مبدأ راسخ هو الامتناع عن تقديم أي تنازل لحماس مهما كان ضئيلاً، لقد جهر بأهدافه منذ البداية؛ فعقب عملية طوفان الأقصى، أعلن بوضوح أن حماس يجب أن تُجرَّد من سلاحها، وأن يُطلَق سراح الرهائن، وأن تخضع غزة للسيطرة الصهيونية المطلقة، وأن يُقتلع سكانها من جذورهم.
وقد شهدنا حتى هذه اللحظة أن هذه الأهداف المرسومة لم تبلغ مداها ولم تحقق غايتها، لذلك، فإن أي مقترح تطرحه الولايات المتحدة أو فرنسا أو الأمم المتحدة أو مجلس الأمن لوقف نزيف الدم، حتى لو كان لبرهة وجيزة، حتى لو كانت ثلاثين يوماً، تتلقّفه حماس بالقبول، بينما يلقيه نتنياهو في سلة المهملات، ولهذا الموقف المتعنت جذور متعددة".
وأضاف مسترسلاً: “الجذر الأول يكمن في إصراره على بلوغ أهدافه المعلنة مهما كلّف الأمر، والجذر الثاني يتمثل في وجود ثلة من الوزراء في حكومته من اليمين المتطرف، سواء أكانوا من المتدينين أم من العلمانيين، أمثال بن غفير وزير الأمن، ووزير الاقتصاد، ووزير التراث الثقافي، هؤلاء يشهرون سيف التهديد في وجه نتنياهو باستمرار، متوعدين بالاستقالة إذا رضخ لوقف إطلاق النار أو أبرم أي اتفاق مع حماس، وإذا نفذوا تهديدهم ستنهار حكومته كبيت من ورق، وسيتعين على البرلمان أن يسلك درب الانتخابات المبكرة.
أما الجذر الثالث، فيتمثل - وللأسف الشديد - في أن مجيء ترامب إلى سدة الحكم أطلق يد نتنياهو لارتكاب المزيد من الجرائم البشعة، سواء أكانت من قبيل الوحشية كالقصف العشوائي أم من باب التجويع والإذلال في غزة.
ترامب يزعم أن "إسرائيل" تذود عن حياضها، وأن سكان غزة يجب أن يغادروا ديارهم، لهذه الأسباب مجتمعةً، يتوهم نتنياهو أنه مبعوث من السماء، وقد صرّح هو نفسه مراراً بأنه يؤدي رسالةً روحيةً في مفترق تاريخي حاسم.
نتنياهو ينبذ أي مقترح لوقف إطلاق النار، سواء تقدمت به الولايات المتحدة أو قطر أو مصر، ولا ينحني لعاصفة المطالبات بوقف نزيف الدم، ويختلق الذرائع تلو الذرائع في كل مرة لنسف جسور التفاوض، والعلة الكامنة وراء هذا العناد المستحكم، هي اعتقاده الراسخ بأن أي تنازل سيكون بمثابة نعي لمستقبله السياسي".
الرهائن والرأي العام: لعبة الشطرنج المعقدة
وفيما يتعلق بضغوط الرأي العام وعائلات الرهائن الإسرائيليين المطالبة بالتوصل إلى اتفاق ووقف لشلال الدم المتدفق، أوضح الخبير البارز: “يتدثّر نتنياهو في طرحه لهذه القضية برداء ديني، متخذاً من قانون هانيبال ستاراً له، ذلك القانون الذي يقرر أنه إذا وقع جنود إسرائيليون في قبضة الأسر، فليس من المهم أن يلقوا حتفهم حتى لا تضطر "إسرائيل" لتقديم تنازلات، ونشهد أنه مهما علا صوت عائلات الرهائن الإسرائيليين وعائلات القتلى، الذين يتضامنون مع أهالي الرهائن، فإنه لا يعيرهم أذناً صاغيةً ولا يؤمن بضرورة فك أسرهم".
وأردف أفقهي قائلاً: “يعتقد نتنياهو اعتقاداً جازماً أنه يؤدي رسالةً سماويةً وأنه لا ينبغي لأحد، كائناً من كان، أن يتدخل في مسيرته المقدسة، وهو ينسج خيوط الأكاذيب باستمرار، ولم يطلق سراح أي رهينة حتى هذه اللحظة، باستثناء المرحلة الأولى التي شهدت تبادلاً مع أسرى فلسطينيين.
هذه المظاهرات المتكررة لا تحرّك في نفسه ساكناً، وليس في جعبته نية لتقديم أدنى تنازل لحماس"، وأضاف مستطرداً: “لذلك، ما دامت لا توجد محكمة دولية أو قانونية أو محكمة جرائم حرب تستطيع أن تضع حداً لغطرسته، وما دام يرى أن الولايات المتحدة تقف خلفه ظهيراً وتدعم سياساته، فسيواصل ارتكاب جرائمه النكراء في غزة للحفاظ على مواقفه وما يزعم أنها رسالته السماوية".
مستقبل غزة في ظل الأطماع الصهيونية
وفي معرض حديثه عن عزم نتنياهو على احتلال غزة بالكامل ودعم الولايات المتحدة لسياسات "إسرائيل" العدوانية، قال الخبير في الشؤون الفلسطينية: “منذ اعتلاء ترامب عرش السلطة، سلّم إلى الكيان الصهيوني القنابل المحظورة التي امتنعت إدارة بايدن عن نقلها إلى "إسرائيل".
وفي مقاتلات إف-35، شارك طيارون أمريكيون مع نظرائهم الصهاينة في شنّ غارات على إيران، ترامب يقف داعماً قوياً للصهاينة لأنه يدرك تمام الإدراك أن بقاءه في سدة الحكم، مرهون بدعمه للکيان الصهيوني سفاك دماء الأطفال، يعلم علم اليقين أنه إذا أراد أدنى تراجع عن مساندة نتنياهو، فسيواجه عاصفةً هوجاء من ضغوط الكونغرس، واللوبيات الصهيونية تتغلغل في جميع مفاصل صنع القرار في أمريكا، وخاصةً في أروقة الكونغرس.
حتى ترامب نفسه صرّح مراراً وتكراراً بأنهم إذا نجحوا في اقتلاع سكان غزة من جذورهم، فسيحوّلونها إلى جنة للاستثمار وقبلة للسياح، نظراً لموقعها الجغرافي الفريد على شاطئ البحر المتوسط. لذلك، تتمتع غزة بمزايا استراتيجية متعددة؛ فبهذه الطريقة سيضمنون أمن "إسرائيل"، ويجرّدون حماس من سلاحها، ويطردون سكان غزة الأصليين، وبسبب هذه المطامع المتشابكة، يشارك ترامب مشاركةً فعليةً في الجرائم التي يرتكبها نتنياهو بدم بارد".
وفي ختام حديثه حول مستقبل غزة، أكد خبير شؤون غرب آسيا: “أعتقد جازماً أن نتنياهو يخدعهم خداعاً مكشوفاً، وبالتأكيد لن يمنح حماس هذه الفرصة التي تلوح في الأفق، نتنياهو يتملّكه الخوف من أنه إذا قبلت حماس وقف إطلاق النار لمدة ستين يوماً، فمع تدفق المساعدات الإنسانية، ستعزّز حماس من قدراتها وتستعيد أنفاسها، وقد تتسرب الأسلحة أيضاً عبر منافذ شتى، ما قد يهدد أمن "إسرائيل" المزعوم، لكن "إسرائيل" نفسها، من خلال قطرات المساعدات الشحيحة التي لا تسمن ولا تغني من جوع أهل غزة، تتخلّص من ضغط الرأي العام العالمي، في حين أن غزة لا تزال تئنّ تحت وطأة كارثة المجاعة التي تفتك بأهلها وتحصد أرواح أطفالها".