الوقت - في حين أثارت الحرب الشرسة التي يشنها الكيان الصهيوني على غزة غضبًا واسع النطاق في المجتمع الدولي، تُهيئ بعض الدول العربية المُتواطئة الظروف لاستمرار احتلال الفلسطينيين وقمعهم بمواصلة تعاونها الخفي، ولا سيما في المجال الاقتصادي، مع هذا الكيان.
مصر، التي لطالما انتقدها الرأي العام الإسلامي لسياستها المتقاعسة رغم مشاركتها الحدود البرية مع غزة في رفح، تجاوزت الآن حدود السلبية وطعنت الفلسطينيين في الظهر بتوقيعها عقود طاقة مع هذا الكيان.
أعلنت شركة نيوميد إنرجي الإسرائيلية يوم الجمعة (8 أغسطس) عن توقيعها اتفاقية لتصدير نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز إلى مصر بحلول عام 2040، وتُعد هذه الصفقة، البالغ قيمتها 35 مليار دولار، أكبر عقد تصدير طاقة للكيان الإسرائيلي.
ووفقًا لبيان صادر عن نيوميد، سيتم تنفيذ الاتفاقية مع شركة أوشن إنرجي المصرية على مرحلتين، تبدأ المرحلة الأولى مطلع عام 2026 بشحن 20 مليار متر مكعب سنويًا بعد إنشاء خطوط أنابيب جديدة، أما المرحلة الثانية، فستُصدر الـ 110 مليارات متر مكعب المتبقية بعد تطوير حقل ليفياثان للغاز وإنشاء خط أنابيب جديد عبر معبر نيتسانا، ووفقًا للتفاصيل المنشورة، لن تقتصر الاتفاقية على تلبية احتياجات مصر فحسب، بل سيتم أيضًا تصدير جزء منها إلى أوروبا عبر منشآت الغاز الطبيعي المسال المصرية.
وُقِّعت الاتفاقية في ظل استمرار الحرب في غزة والأزمة الإنسانية الناجمة عنها، وقد وصفها نشطاء حقوق الإنسان ومؤيدو الفلسطينيين بأنها "مخزية"، ويرون أن تطبيع العلاقات الاقتصادية مع كيان متورط في إبادة جماعية في غزة يُعدّ إضفاءً للشرعية على جرائمه.
صفقة أحادية الجانب لصالح تل أبيب
لا يُعدّ توقيع هذا العقد الضخم تعاونًا اقتصاديًا فحسب، بل هو أيضًا مشروع استراتيجي متعدد الأبعاد لتل أبيب. ستُشكّل قيمة العقد البالغة 35 مليار دولار مصدر دخل موثوقًا به لمدة 15 عامًا على الأقل.
سيُغطّي هذا الدخل جزءًا من تكاليف الحرب في غزة، وتطوير البنية التحتية، وتعزيز الصناعات المحلية في الأراضي المحتلة، والتي فرضت تكاليف باهظة على حكومة نتنياهو خلال العامين الماضيين بسبب انخراطها في جبهات مختلفة، إن وجود عميل كبير مثل مصر، وهي مستهلك محلي وطريق تصدير إلى أوروبا، يُتيح لتل أبيب بيع الغاز المُنتَج من حقلي ليفياثان وتمار بطاقة إنتاجية عالية.
يُشجع هذا العقد طويل الأجل المستثمرين الأجانب على الاستثمار في تطوير حقول الغاز وتحسين البنية التحتية للطاقة في الأراضي المحتلة، ما يُسهم في عودة جزء من عشرات المليارات من الدولارات التي سُحبت من "إسرائيل" خلال حرب غزة إلى الدورة الاقتصادية لهذا الكيان.
النقطة المهمة هي أن تل أبيب، من خلال كونها المورد الرئيسي للطاقة لمصر، تكتسب نفوذًا قويًا يُمكنها استغلال تدفق الغاز كأداة مساومة في المفاوضات الثنائية والقضايا الإقليمية مع مصر.
ووفقًا لبعض المراقبين، لن تُعزز صفقة الغاز مكانة تل أبيب الاقتصادية فحسب، بل ستساعدها أيضًا على إعادة تنشيط مساعيها لتطبيع العلاقات مع الدول العربية، وبما أن تل أبيب قد صرّحت صراحةً بأن صادرات الطاقة هي "الركيزة" لتطوير العلاقات مع الدول العربية والدول المجاورة، فإن صفقة بهذا الحجم قد تفتح الباب أمام اتفاقيات مماثلة مع دول أخرى.
كما أن استخدام منشآت الغاز الطبيعي المسال المصرية سيسمح للكيان الصهيوني بنقل الغاز الطبيعي المستخرج من حقوله إلى أوروبا بسرعة أكبر وبتكلفة أقل، دون الحاجة إلى استثمارات ضخمة ومستهلكة للوقت في بنى تحتية جديدة. لذلك، من خلال توريد الغاز إلى مصر وأوروبا، يعزز الكيان الصهيوني مكانته الاستراتيجية في معادلات الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط.
المخاطر السياسية والاقتصادية على مصر
على الرغم من أن توقيع عقد بمليارات الدولارات قد يبدو وكأنه يلبي احتياجات مصر العاجلة من الطاقة، إلا أن النظرة المتعمقة ستحمل سلسلة من التداعيات السياسية والاقتصادية والأمنية على البلاد، لن تؤثر هذه التداعيات على هيكل الطاقة في مصر فحسب، بل ستؤثر أيضًا على مكانتها الإقليمية واستقرارها الداخلي.
إن التعاون الاقتصادي المكثف مع كيان متورط في حرب غزة ومتهم بارتكاب جرائم حرب قد يُضعف مصداقية مصر كداعم للقضية الفلسطينية، ويُلهب الرأي العام الإقليمي ضد القاهرة.
إن الاعتماد على الغاز من الأراضي المحتلة يمنح تل أبيب حرية التأثير على سياسات مصر الداخلية والخارجية. تُظهر تجربة "إسرائيل" في قطع صادرات الغاز بسبب الحروب والتوترات الأمنية أن مصر قد تواجه أزمة طاقة مفاجئة في أي لحظة.
وكما حدث بعد اندلاع حرب غزة وتصاعد التوتر بشأن مقترح الكيان الإسرائيلي بنقل الفلسطينيين إلى سيناء، أوقفت تل أبيب إنتاج حقل تمار وتصدير الغاز عبر خط أنابيب العريش-عسقلان لأسابيع، ما أدى إلى أزمة كهرباء في مصر، كذلك، خلال الحرب الأخيرة بين الكيان الإسرائيلي وإيران، انقطعت صادرات حقل ليفياثان إلى مصر لمدة 12 يومًا، وقد يتكرر هذا السيناريو مستقبلًا.
وفقاً لبعض الخبراء، ستواجه صناعتا الصلب والبتروكيماويات في مصر، وهما المستهلكان الرئيسيان للغاز، إغلاقاً أو انخفاضاً في الإنتاج في حال خفض الواردات، حيث أظهرت التجارب الحديثة أن انقطاع إمدادات الغاز لبضعة أسابيع فقط يمكن أن يكون له تأثير كبير على الإنتاج الصناعي في مصر.
من ناحية أخرى، قد يؤدي الاعتماد الكبير على واردات الغاز إلى تقليل الاستثمار في استكشاف وتطوير الحقول المحلية مثل حقل ظهر، وهذا سيزيد من اعتماد مصر على الواردات ويهدد أمنها الطاقي، وعلى المدى الطويل، سيزيد هذا الاعتماد من التكاليف ويجعل القاهرة أكثر عرضة للضغوط السياسية والاقتصادية الخارجية.
كما أن أي تهديد لمنشآت الغاز في الأراضي المحتلة، من حرب إلى هجمات إلكترونية، قد يعطل إمدادات الطاقة في مصر بشكل مباشر، وذلك لأن استبدال الغاز الإسرائيلي في السوق العالمية فوراً يستغرق وقتاً طويلاً ويكلف الكثير، وهذا سيضع مصر في موقف حرج للغاية.
بشكل عام، لا يرى الكيان الصهيوني في عقود الطاقة مجرد مصدر دخل، بل أداةً رئيسيةً في السياسة الناعمة، تُمكّن تل أبيب من استخدام تدفق الغاز كأداة ضغط ونفوذ في مواقف سياسية وإقليمية حساسة.