الوقت- رغم غياب الصراع الطائفي والمذهبي عن تركيا، إلا أنها تخوض اليوم أشبه بما هو حرب القوميات.
ولعل المراجعة السريعة لوسائل الإعلام التركيّة تكشف حجم الاحتدام القومي الذي تعيشه البلاد، وما ينتج عنه من ارتفاع حجم القلق الأمني التركي من مُفرزات التركيبة القوميّة في البلاد.
فقد نقلت وكالة "دوغان" التركيّة عن مصادر عسكرية تركيّة تجهيز قوّات عربيّة مدربّة تماماً كالتدريب الأمريكي للقوات الكردية، ولمواجهة الأخيرة. هذه القوّات بدأت تدريبها بتاريخ۲۹/۰۳/۲۰۱۷ في معسكر على الحدود التركيّة السوريّة. وتوضح الوكالة أنّ ضباط أتراك يشرفون على إجراء دورات عسكرية مضغوطة لهذه القوّات نظراً لضيق الوقت، وفق المصدر العسكري. وهذا ما أكّده أيضاً أحد ضبّاط الجيش السوري الحرّ.
المجتمع التركي الذي يغلب عليه الطابع العلماني، يبدو بعيداً كل البعد عن الحرب الدينية، إلاّ أنه بتمام بعده عن النزاعات الطائفية يعيش شبح بالحرب القوميّة حيث لا يكاد يمر يوما في تركيا دون ورود أخبار عن سقوط قتلى بين الجيش والمسلحين الأكراد في مناطق الجنوب الشرقي، أو غارات تركية على معسكرات حزب العمال في جبال قنديل شمال العراق.
تركيا الحديثة ومنذ تأسيسها في العام 1932 تعاني من أزمة القوميات العربية والكرديّة والتركيّة، حيث بذل القائمون على الحكم منذ ذلك الحين جهوداً أمنيّة وسياسيّة واقتصادية لمعالجة هذه القضيّة. اليوم، وبعد مستجدّات الأزمة السورية التي سعى أردوغان مع الحليف الأمريكي لإدارتها في صالحه عبر إسقاط الرئيس الأسد، عملت واشنطن على تسليح الأكراد الذي يمتلكون أحلام انفصالية الأمر الذي أجّج التحدي العرقي في تركيا، وتحديداً فيما يتعلّق بالأكراد.
ربّما يعتقد البعض أن أردوغان يخوض حرباً عثمانيّة، أقصد ذات طابع مذهبي، في حين يعتقد آخرون أن مشروعه يحمل في طياته حرباً عرقية إلاّ أن التعبير الأدقّ و الأشمل من الناحية السياسية والتحليلية لتفسي المخططات التركيّة في المنطقة هي عرقية ومذهبية دون أن تكون كذلك. إنّها برغماتيّة أردوغان التي تسمح له باللعب على كافّة الاوتار، إلا أنّ تقطع أغلبها خلال السنوات الست الماضية ستدفعه مجبراً للعب بالورقة التي يكرها نظراً لارتداداتها الداخليّة، ورقة الحرب العرقيّة والقوميّة.
لا تتّحد تركيا مع السنّة في المنطقة لمجرد أنهم سنّة، ولا تتحد مع العرب ضدّ الأكراد(الجماعات المسلّحة ضد الأكراد) أو الأكراد ضدّ العرب (إقليم كردستان والحكومة المركزية في العراق) لمجرّد قوميّتهم، وإنما تتحد مع من يدعم سياساتها التوسعية في المنطقة حتى وإن كان من مذهب أو عرق آخر، وهذا يفسر اختلاط مذاهب وقوميات حلفاء وأعداء تركيا، على حدّ سواء.
هاجس قديم
هناك خشية تركيّة حقيقة من قدرات الأكراد في سوريا والعراق، نظراً للهاجس التاريخي لهم بأن تقوية البنية العسكرية للأكراد وانتهاءهم من الأزمتين السوريّة والتركيّة، سيجعلهم (الأكراد) يتوجّهون نحو الهدف التركي، وهذا ما يفسرّ عدم رعاية تركيا لحقوق الأكراد منذ انهيار الامبراطوريّة العثمانيّة وحتى أنّهم يتجنّبون تسميتهم بالأكراد، بل ينادونهم بأتراك الجبال (أتراك البريّة).
وحتّى بعد مرحلة التحول في الحياة السياسية في تركيا إلى التعددية الحزبية في العام 1946، فإن الأكراد لم يحصلوا على حقوقهم في تركيا الحديثة، إلا أنّهم في الوقت عينه كانوا ينتهزون فرص الانقلابات العسكرية والأوضاع الأمنية الصعبة في البلاد للمضيّ في مشاريعهم التوسعيّة، ولعل ما يحصل اليوم يمثّل الفرصة الأكبر للأكراد منذ عقود خلت.
لذلك تعدّ استراتيجية إيجاد صراع عربي كردي في سوريا احد أبرز الاستراتيجيات التركية الخفيّة اليوم، بغية تعزيز الجهود الرامية لإضعاف الأكراد المدعومين أمريكياً خلاف رغبة أنقرة، ولعل صلاحيات الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان في ظل النظام الرئاسي الذي تكرّس في مرحلة ما بعد الاستفتاء الدستوري ستعزّز من النزعة التركيّة في إيجاد حرب قوميّة عربية- كرديّة بما يصبّ في صالح الأتراك والنظام الحاكم.
إذاً، يرى الأتراك اليوم أن لا سبيل لهم لحماية أنفسهم وأمنهم الداخلي وكذلك تضعيف العنف الداخلي للأكراد، سوى أن يضعوا الأكراد أمام خطر جديد لإعطاء أنقرة فرصة أكبر في التعامل مع المستجدات الكرديّة الأمريكية. فكما عملت واشنطن على تسليح الأكراد، يبدو أن أنقرة تستخدم الورقة نفسها عبر تسليح العرب لزجّهم في مواجهة مباشرة مع الأكراد، خاصة أن القوات الكردية تعمد في أغلب الأحيان إلى تهجير العرب من المناطق التي تحرّرها من تنظيم داعش الإرهابي، وهذا ما ستستخدمه تركيا ذريعةً في ترويض جماعات مسلّحة عربية خدمةً لمشروعها.
يبدو أنّه وكما استشرى مرض الطائفية المذهبية في المنطقة وتفاقم بالتدخل الأمريكي في شؤون الدول العربيّة، يؤسس الدعم الأمريكي للأكراد إلى تفشّي أمراض عرقيّة، ولكن هذه المرّة من جانب أردوغان نفسه الذي يرى خَلاصَهُ اليوم في حرب عربية كرديّة يرقص على تناقضاتها في العراق وسوريا على حدّ سواء.