الوقت - أمريكا والتي يصفها البعض بالقوة العظمى، تبني قوتها عبر سياسة إضعاف الشعوب لحكمها، وصناعة الخلافات لتكون هي الحَكَم. فالحقيقة الماثلة أمامنا والتي تدل على هشاشة هذه الدولة، تتمثل في السياسات الأمريكية الخارجية تجاه المنطقة.
فأمريكا تتعامل دائما مع الوضع القائم، بمعنى أنها لا تغير ما حدث، ولا تضمن تحولاً بشكل ديمقراطي صحيح كما تدعي، بل إنها تتعايش مع الوضع القائم طالما في هذا الوضع ضمانةٌ لأمنها ومصالحها، وبالطبع ضمانة أمن ومصالح الكيان الاسرائيلي.
فالقصة ليست قصة قيمٍ كما تدعي، أو قصة حقوق الإنسان، أو الديمقراطية وغيرها، بل هي سياسة مصالح قد تختلف معاييرها بين دولةٍ وأخرى، بل بين فترةٍ وأخرى في نفس الدولة. وهذا حالها في التعاطي مع الأزمة السورية منذ اندلاعها. فكيف يظهر العجز الأمريكي في إدارة الملفات الخارجية وبالتحديد الملف السوري؟
هنا قراءةٌ في التعاطي الأمريكي المضطرب مع الأزمة السورية
- مع بداية الأزمة السورية وخلال جولاته في مدن حماه وداريا السورية، لم يتوان السفير الأمريكي في دمشق روبرت فورد، في الحديث عن قرب نهاية الرئيس السوري بشار الأسد. وبقي يردد هذا الشعار حتى كان آخر مرةٍ قال ذلك في 07/12/2012 حيث صرح قائلاً: "أيام نظام الأسد في الحكم باتت معدودة، خاصة مع تزايد وتيرة المعارك في محيط العاصمة دمشق". وكذلك وزير الدفاع الأمريكي في ذلك الوقت "روبرت غيتس" حيث قال في حزيران 2012 أن شرعية الأسد عرضةٌ للتساؤل وبعد يومين فقط من نفس الشهر، أعلن البيت الأبيض أن شرعية الأسد كزعيم تبددت بالفعل.
- في خريف عام 2011 كانت بداية النمو المتسارع للمعارضة المسلحة والتي كانت تطالب دوماً بالدعم العسكري وضغط المجتمع الدولي لإسقاط الرئيس الأسد. وبعد الأعمال الشنيعة التي قامت بها هذه الجماعات الإرهابية في سوريا، تحولت خلال عام 2012 الى الشغل الشاغل لأمريكا. وفي خريف 2012 أي بعد سنةٍ تقريباً، بدأ الأمريكيون يضغطون من أجل تشكيل إطار معارض واسع يضعف الجماعات المتشددة في المعارضة، مما قد يؤدي لوجود طرفٍ معتدل قد ينخرط في مفاوضات مع أطراف من النظام. الأمر الذي فاجأ الأطراف التي كانت تسعى لرحيل الرئيس السوري حينها. فوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون وفي بروكسل يوم الأربعاء 5-12-2012، عقب محادثات مع وزارء خارجية منظمة حلف شمال الاطلسي (ناتو)، وحيث كانت تتحدث عن ضرورة أن يبدأ الانتقال السياسي في سوريا بأقصى سرعة ممكنة، قالت "لكن هذا يتطلب من نظام الأسد أن يتخذ قرارا بالمشاركة في عملية الانتقال السياسي، ويوقف العنف ضد شعبه.. نأمل أن يقوم بذلك".
واعتبر تصريح كلينتون لافتاً حينها، ليعبر عن التغير في الموقف الأمريكي، لأن أغلب التصريحات التي كانت تصدر عنها سابقا كانت تشير إلى أن أيام النظام معدودة، فيما أخذت في تصريحاتها الجديدة حينها، تدعو الرئيس الأسد للإنخراط في الانتقال السياسي، موضحة أن المجلس الوطني السوري لميعد التشكيل القيادي الأنسب للمعارضة. وقد أثار تصريحها حينها السخط بين ما يسمى المعارضة السورية. ولم تمض أيام قليلة حتى أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما الإعتراف بالائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة ممثلاً شرعياً للشعب السوري، وذلك بتاريخ 11/12/2012. ثم جاء بعده إقرار المشاركين في اجتماع «أصدقاء سوريا» بمراكش، والذين مثلوا 114 دولة بالاعتراف به كممثلٍ شرعي وحيد للشعب السوري في 13/12/2012.
وكان لافتاً حينها، أن السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية لم ترأس اجتماع اصدقاء سوريا كما كان مقرراً، وأوفدت نائبها للمشاركة فيه ممثلاً الحكومة الامريكية، الأمر الذي أثار العديد من الشكوك، مما يؤكد مرةً أخرى، التضعضع في الموقف الأمريكي. وما يجب الإشارة اليه أيضاً، هو قيام واشنطن حينها وقبل أسابيع قليلة من هذا التصريح من وضع تنظيم "جـــــبهة النصـــــرة" على القائمة السوداء للمنظمات الإرهابية.
الأمر الذي أثار امتعاضاً في أوســـاط ما سمي بالثائرين السوريين، والذين كانت قد وعدتهم أمريكا بدعمهم حتى إسقاط الرئيس الاسد. فلا شك حينها، أن وضع هذا التنظيم على لائحة الارهاب، أدى الى شق المعارضة السورية الى أكثر من فريق، كما أن هذا القرار الأمريكي أحرج دول الخليج الفارسي الى جانب تركيا والتي ساعدت على تسليح هذه الجبهة ووصول الأسلحة إليها، سواء بشكل مباشر او غير مباشر، على المستوى الرسمي او الشعبي.
- تجديد الخطاب السياسى الأمريكي اليوم، وهو ما انعكس في تصريحات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، في 14 يناير 2015، التي أكد فيها على ضرورة تغيير الأسد لسياساته وعلى أن "الوقت قد حان لأن يضع الأسد ونظامه مصلحة شعبه أولاً" ولكن دون الإشارة إلى ضرورة تخليه عن السلطة. مما يشير إلى أن أمريكا تعيد ترتيب أولوياتها من جديد في التعامل مع التداعيات التي يفرضها استمرار الأزمة السورية. وليس خافياً تغير لغة الخطاب الإعلامي في التعامل مع الأزمة السورية، وهو ما بدا واضحاً في إفتتاحية صحيفة "نيويورك تايمز"، في 24 يناير 2015، بعنوان "تحول الوقائع في سوريا" Shifting Realities in Syria ، والتي أكدت على أن التهديد الأكبر في الوقت الحالي لا يتمثل في الأسد بل في تنظيم "داعش"، خاصة إذا استمر في توسعاته داخل سوريا والعراق، ونجح في استقطاب المزيد من المقاتلين الأجانب وشن هجمات على الدول الغربية.
إذاً هي جملةٌ من التحديات التي فرضت على الإدارة الأمريكية ضرورة تغيير موقفها تجاه بقاء الرئيس الأسد في السلطة. إستمرار تمدد نفوذ تنظيم داعش الإرهابي، وتصاعد حدة الخلافات بين قوى المعارضة السورية وفشلها في التوصل إلى توافقات سياسية فيما بينها، فضلاً عن تخوف واشنطن من التوجهات السياسية والأيديولوجية التي تتبناها بعض تلك القوى، والتي يمكن تحولها في المستقبل، إلى مصدر لتهديد المصالح الأمريكية في المنطقة الى جانب تفاقم الأزمة الإنسانية التي يواجهها الشعب السوري، والتى أثارت الرأي العام الأمريكي ودفعت اتجاهات عديدة إلى توجيه مزيد من الانتقادات لإسراتيجية الرئيس أوباما في التعاطي مع تطورات الأوضاع في سوريا.
أمورٌ بأكملها، لا تدل إلا على حجم التخبط الذي عانته ومازالت تعانية الإدارة الأمريكية و بالخصوص فيما يتعلق بإدارة الملفات السياسية الخارجية. والعجيب هو دور وموقف دول الخليج الفارسي.والتي تحارب بالوكالة عن أمريكا، وتسعى اليوم لإعادة هيبتها التي فقدتها جراء سياساتها في المنطقة، والتي حاولت فيها استرضاء امريكا التي تراجع دورها المؤثر في المنطقة أيضاً، في الوقت الذي يتزايد فيه الدور الإيراني في المنطقة والعالم. إيران وحدها تلقى احترام الجميع حتى أعدائها، وفي مقدمتهم أمريكا التي كانت ومازالت تفاوضها على الملف النووي. فإيران تعرف وتفهم جيداً حقيقة حجم أمريكا ومدى هشاشتها، على عكس دول الخليج الفارسي الذين لا يعملون إلا ضمن الأجندة الأمريكية، وأمريكا هي الدولة التي أثبتت ضعفها وعدم حكمتها في السياسات الخارجية. فعلى ماذا يراهن أتباع السياسة الأمريكية وبالتحديد دول الخليج الفارسي، وأمريكا، هي الدولة التي طالما استخدمتهم وتستخدمهم حتى في إدارة الأزمة السورية؟