الوقت- يتفق المراقبون للشأن التركي ان قيام وحدات في الجيش والقوات العسكرية التركية بتنفيذ انقلاب عسكري يعتبر امرا عجيبا ومعقدا، فهذه المحاولة الانقلابية لم تكن محسوبة ابدا وكأنها اتت من فراغ وليس من الواقع السياسي والاجتماعي والعسكري لأن اكثر المراقبين تفاؤلا لم يعتقد بامكانية نجاح مثل هذا الانقلاب بالطريقة التقليدية في تركيا.
وكيف يمكن التصديق ان منفذي الانقلاب لم يكونوا يتوقعون ردود الافعال الشعبية وردود المنظمات السياسية والاعلامية التركية؟ ومن هنا نقول ان هناك سبب وحيد لهذا الخبط الا وهو الخطأ في الحسابات نتيجة الغباء البحت.
ان قادة هذا الانقلاب هم من ضمن مؤسسة الجيش وكانوا يعلمون بالتغييرات التي حصلت في هيكليتها خلال السنوات الـ 10 الاخيرة وكانوا يدركون ان الجيش التركي الحالي لم يعد ذلك الجيش الذي يتمتع بنظام قيادي متماسك و قادر على تنفيذ انقلاب والاطاحة بالحكومات.
الجيش التركي نفذ 3 انقلابات حتى الان بنجاح بسبب وجود قيادة متماسكة وقد عرف بأنه الحامي لعلمانية النظام السياسي وكان بعيدا عن التعديلات التي ينفذها السياسيون في مؤسسات الدولة لكن اردوغان، وحسب السياسة الاوروبية المسماة "بالمراقبة الديمقراطية على القوات المسلحة" التي تعد من شروط الانضمام للاتحاد الاوروبي، بادر منذ عام 2007 الى اعادة هيكلية الجيش وعزل عشرات الجنرالات المتورطين في انقلابات سابقة واحالتهم للقضاء كما اقدم اردوغان ايضا على احداث تغييرات في سلك الشرطة والاتيان بقادة موالين له منذ ديسامبر 2013 الذي شهد انكشاف الفساد المالي في حكومة اردوغان، ونتيجة لذلك راينا كيف وقفت الشرطة الى جانب الفئات الشعبية المؤيدة لاردوغان وفي وجه محاولة الانقلاب الفاشلة ليل الجمعة.
ومن جهة اخرى يشهد المجتمع التركي كباقي المجتمعات نموا في مستوى الوعي الشعبي ويعيش ثورة المعلومات ولذلك لايمكن للجيش القيام بانقلاب عسكري بالطرق التقليدية، وكان على قادة الانقلاب ان يدركوا بأن اقصى ما كان يمكن لهم ان يصلوا اليه هو حرب داخلية وانقسام في القوات العسكرية وان حظوظهم معدومة في كسب تأييد عناصر الجيش والقوى العسكرية فالتغييرات التي احدثها اردوغان في جسم القوات المسلحة سلبتها امكانية النجاح في تنفيذ الانقلابات.
وبغض النظر عن اقوال البعض الذين يعتبرون هذا الانقلاب مدبرا من قبل اردوغان نفسه من اجل رفع شعبيته لكن نتيجة هذا الانقلاب الفاشل صبت في صالح الرئيس التركي فالاحزاب المؤيدة والمعارضة له كلها اصطفت الى جانبه ضد الانقلابيين.
ان اردوغان ونتيجة لهذا الانقلاب غير المحسوب وغير المنطقي بات يقف الان كبطل يكافح الانقلابات وصنع لنفسه مكانة جديدة لكن من الواضح ان البطل الحقيقي لهذا الانقلاب هو الشعب التركي الذي افشل الانقلابيين وان اردوغان ياتي في الدرجة الثانية من الاهمية لكنه كسب الفرصة من الان فصاعدا على تنفيذ الامور التالية:
1- تصفية معارضيه في داخل المؤسسة العسكرية ومؤسسات الحكم.
2- ايجاد أداة جديدة للضغط على فتح الله غولن وملاحقته قضائيا وقانونيا كمدبر للانقلاب وارهابي.
3- احتواء الانتقادات والمعارضة الموجهة ضده وايجاد ذريعة لمقاومة الانتقادات الداخلية.
4- امتلاك فرصة سياسية جيدة لتنفيذ مشروع تحويل النظام السياسي للبلاد الى نظام رئاسي والاستئثار بالسلطة.
5- تعزيز شعبيته بين الموالين له وكسب قدرة اكبر على المناورة.
ان اردوغان لم يشهد اجتماعا مؤيدا لحكومته في المدن التركية بهذا الحجم منذ اضطرابات حديقة غزي في يونيو 2013 ولذلك يمكن القول ان الانجازات التي ذكرناها قد كسبها اردوغان بسبب هذا الانقلاب وان الانقلابيين باتوا هم الخاسرون الاكبر بسبب خطوتهم غير المحسوبة.
ان الانقلابيين قد خسروا تأييد قسم كبير من الشعب التركي كما مهدوا لحذف انفسهم وسوقهم نحو المحاكمة كما انهم لطخوا سمعتهم لاشهار سيفهم في وجه الشعب واطلاق النار على المواطنين وقصف مؤسسات عامة وحكومية بالطائرات والمروحيات.
ان للجيش التركي مكانة خاصة لدى الشعب ولذلك يعتبر المواطنون هذه المحاولة الانقلابية الدامية ذنبا لايمكن غفرانه ووصمة عار في سجل الجيش الذي كان من المفترض ان يواجه الاعداء الاجانب بدلا من توجيه فوهة البنادق الى صدور الشعب.
ان هذا الذنب كبير عند الشعب التركي الى درجة بات فيها حتى اشد معارضي اردوغان يقفون الى جانبه ضد الانقلاب وهذا مكسب لايستهان به للرئيس التركي لكن ورغم ذلك يجب القول ان محاولة الانقلاب هذه تدل على زيادة الشرخ السياسي الموجود في تركيا والذي ستظهر تداعياته وهزاته الارتدادية في الايام والاسابيع المقبلة بشكل اكبر.