الوقت - عقب الخطاب الأخير الذي ألقاه الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام لحزب الله اللبناني، والذي أكد فيه أن المقاومة تملك حق الرد على اغتيال الشهيد هيثم علي الطباطبائي - قائد وحدة “رضوان” النخبوية - وأنها وحدها من يحدد توقيت هذا الرد، تبلورت مساحة تحليلية جديدة حول التوترات الأمنية والسياسية بين لبنان والكيان الصهيوني.
يرى المحللون أن حزب الله يقوم حالياً بتقييم مجموعة من الخيارات العملياتية والاستراتيجية، ليوجّه في اللحظة المواتية رداً هادفاً ودقيقاً وفعالاً.
طوال العام المنصرم، امتنع حزب الله لدواعٍ استراتيجية وسياسية عن أي رد مباشر على الكيان الصهيوني، فبعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، انصب تركيز المقاومة الأساسي على إعادة إعمار المناطق المنكوبة، وإلى جانب ذلك، تراجعت إلى حد ما عن مواقفها المبدئية بشأن تشكيل الحكومة، حفاظاً على الاستقرار السياسي في لبنان، كان الهدف من هذه الخطوات تهيئة أرضية للهدوء الداخلي وتعزيز البنى التحتية للبلاد، كي يتسنى للبنان تجاوز أزماته السياسية والاقتصادية المتعددة.
غير أن الكيان الصهيوني استغل صبر حزب الله الاستراتيجي، وواصل أعماله العدائية ناقضاً وقف إطلاق النار آلاف المرات. لكن اغتيال أبي علي الطباطبائي، أحد كبار قادة المقاومة، كان تجاوزاً للخط الأحمر وعتبة الصبر الاستراتيجي لحزب الله، إذ لم يترك الصهاينة بحسابهم الخاطئ أمام حزب الله سوى الرد الحاسم.
أكدت تصريحات الشيخ نعيم قاسم هذا التحول في نهج الحركة تجاه الكيان الصهيوني، كما شدّد السفير الإيراني في لبنان على أن تغيير استراتيجية حزب الله جدير بالاهتمام، وأن الحركة تعتزم توجيه رد مقتدر على اعتداءات الکيان المحتل الأخيرة، والسؤال المطروح بقوة الآن هو: كيف سيكون رد حزب الله؟ وما السيناريوهات الممكنة؟
رد مسنود بالحاضنة الشعبية
أولاً، للوصول إلى فهم صحيح لطبيعة الرد المحتمل من حزب الله، من الضروري أخذ الأوضاع الداخلية اللبنانية في الحسبان ضمن تقديرات قادة المقاومة، فقد واجه حزب الله في الأشهر الماضية جبهةً ثقيلةً موحدةً ومتعددة الأوجه ومنظمةً من قبل أميركا لإجباره على نزع السلاح، وكان ميدان هذه المواجهة أساساً ساحة الرأي العام اللبناني، ومحركها الرئيس الحكومة اللبنانية، فالحكومة اللبنانية، بتأكيدها على ضرورة احتكار السلاح بيد الجيش، تقترح عملياً الحل الدبلوماسي للمواجهة الجذرية مع اعتداءات الكيان الصهيوني واستعادة النقاط المحتلة في جنوب البلاد، وتعكس الدعاية الإعلامية العربية والغربية ذلك لإقناع الشعب اللبناني بهذا الاستدلال الوهمي.
بالنظر إلى هذا، فإن أحد المحاور الأساسية للرد المحتمل من حزب الله، هو كسب الدعم الداخلي الواسع قبل أي إجراء عملي، والظروف الراهنة للمجتمع تظهر أن الشعب اللبناني لا يعتبر الحل السياسي موثوقاً إزاء کيانٍ قاتل للأطفال والذي لم يلتزم باتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر 2024، وكما أكد الأمين العام لحزب الله، توجد في داخل لبنان جماعات وتيارات مختلفة تعد "إسرائيل" عدوها وهي مستعدة للمشاركة في مواجهة الکيان المحتل.
مع ذلك، فإن أهمية الحفاظ على هذا الدعم الداخلي لحزب الله اليوم مضاعفة، إذ يتعين عليه أن يوازن عسكرياً وأمنياً في مواجهة الكيان الصهيوني، وأن يسدّ في الوقت نفسه فرصة الاستغلال والمكاسب الدعائية للتيارات المعارضة، وبهذا، فإن الجمع بين القوة العسكرية والدعم الاجتماعي يمكن أن يضمن نجاح أي رد ذكي واستراتيجي من حزب الله في وجه العدو المحتل.
الهجوم على المناطق المحتلة في جنوب لبنان
بناءً على ما تقدم، من الخيارات المهمة أمام حزب الله التركيز على استهداف المناطق المحتلة في جنوب لبنان التي خضعت طوال العام الماضي لسيطرة العسكريين الصهاينة، وأخرجت فعلياً جزءاً من الأراضي اللبنانية عن السيادة الإقليمية، كما أن الإعلان الصريح عن التخطيط للبقاء طويل الأمد في هذه المناطق، يعرّض سلامة لبنان الإقليمية لخطر شديد، لذا فإن العمليات العسكرية لطرد المحتلين من هذه المناطق الخمس الاستراتيجية، فضلاً عن أنها تجلب دعمًا داخليًا واسعًا لحزب الله، ترسل أيضاً رسالةً سياسيةً قويةً لقادة تل أبيب مفادها بأن الاحتلال له ثمن، وأن المقاومة لن تسمح بتثبيت وجود العدو على الأرض اللبنانية.
من منظور القانون الدولي أيضاً، يعدّ مثل هذا الإجراء مشروعاً، لأن هدفه الأساسي تحرير الأراضي المحتلة، وبالتالي لن توجه أي تهمة إلى حزب الله، يتيح هذا الخيار للمقاومة أن تجبر العدو على الانسحاب بجعل مواقع المحتل غير آمنة، وأن تستعيد السيطرة على هذه المناطق من جديد، وهو إجراء قادر على تغيير التوازن الميداني بشكل ملحوظ.
الهجوم على منشآت الطاقة في المتوسط
احتمال استهداف منشآت الطاقة التابعة للكيان الصهيوني في البحر المتوسط، يمكن أن يكون أيضاً أحد خيارات حزب الله الانتقامية، وهي منشآت تمثّل العمود الفقري لاقتصاد هذا الکيان وطاقته وتتمتع بأهمية استراتيجية عالية، فقد حذّر الشهيد السيد حسن نصر الله، الأمين العام السابق لحزب الله، مراراً إبان مفاوضات ترسيم الحدود البحرية من أن المقاومة ستضع هذه المراكز الحيوية في مرمى نيرانها إذا تعرضت مصالح لبنان للتهديد، وربما حان الآن وقت تنفيذ ذلك التحذير.
في حال تطبيق هذا الخيار، سيفرض حزب الله من جهة ضغطاً اقتصادياً واسعاً على الکيان الصهيوني، ومن جهة أخرى سيبعث رسالةً أمنيةً واضحةً إلى تل أبيب وداعميها بأن المقاومة ليست قادرةً على استهداف البنى التحتية الحيوية لتل أبيب فحسب، بل هي مستعدة للرد على أي اعتداء على لبنان بردة فعل حاسمة ودقيقة ورادعة قادرة على تغيير معادلات القوة في المنطقة.
الهجوم بالطائرات المسيرة والصواريخ
علاوةً على ذلك، قد يلجأ حزب الله في المرحلة التالية إلى استخدام قدراته الصاروخية والمسيرة على نطاق واسع لاستهداف مناطق في شمال الأراضي المحتلة ذات حساسية استراتيجية بالنسبة لتل أبيب، ويعتبر جيش الاحتلال هذا الخيار محتملاً للغاية، ولهذا رفع مستوى جاهزية أنظمة دفاعه الجوي في الجبهة الشمالية.
يوآف زيتون، المحلل العسكري في صحيفة يديعوت أحرونوت، أكد أيضاً أن حزب الله، حتى بعد فقدان عدد من قادته الكبار، لا يزال يملك ترسانةً كافيةً، وقال: “يستطيع حزب الله أن يهاجم حيفا وتل أبيب بصواريخ دقيقة، وأن يرسل طائرات مسيرة انتحارية نحو الجليل والأهداف الاستراتيجية في الشمال”.
الهدف الأساسي لحزب الله في حال تنفيذ مثل هذه العمليات، هو إجبار القوات الإسرائيلية على الانسحاب من المناطق القريبة من نهر الليطاني والالتزام بـ"الخط الأزرق" الذي حددته الأمم المتحدة عام 2000 ويعد الحد الرسمي بين الطرفين.
تنفيذ هذا الخيار ليس له بعد عسكري فقط، بل يحمل أيضاً رسالةً سياسيةً واضحةً مفادها بأن المقاومة تؤكد على الحفاظ على حدود لبنان المعترف بها، وتتوقع من الطرف المقابل احترام التزاماته الدولية، ومثل هذا الضغط يمكن أن يمهّد الأرض للمفاوضات والمبادرات الدبلوماسية الجديدة، ويبين أن أي انتهاك لسيادة لبنان سيواجه بردة فعل رادعة ومحسوبة.
والخيار الذي يبدو أقل احتمالاً لكن قد يلجأ إليه حزب الله عند الضرورة، هو دخول قوات المقاومة برا إلى أجزاء من منطقة الجليل في الأراضي المحتلة، والهدف من هذا الإجراء هو الضغط المباشر على المستوطنين وجعل حياتهم اليومية غير آمنة.
أظهرت التجربة التاريخية أن مثل هذه الإجراءات لها تأثير نفسي وعملياتي كبير على الکيان، وحسب الإحصاءات الرسمية، خلال هجمات حزب الله على شمال الأراضي المحتلة في خضم حرب غزة وقبل اتفاق وقف إطلاق النار في ديسمبر الماضي، هرب أكثر من 70 ألف مستوطن من المناطق الشمالية ولم يعودوا حتى الآن، لذا، مع بدء جولة جديدة من العمليات في الجبهة الشمالية، سيزداد احتمال تشريد المزيد من المستوطنين، وهذا يفرض ضغطاً عسكرياً واقتصادياً ثقيلاً على حكومة نتنياهو المتطرفة.
يبدو أن حزب الله، في رده على إجراءات تل أبيب الأخيرة، يدرس بدلاً من الاعتماد على سيناريو واحد مجموعةً من الخيارات السياسية والعسكرية في آن واحد، مثل هذا النهج يمكن أن يبعث رسالة ردع قوية إلى الكيان الصهيوني ويجلب الدعم الداخلي والإقليمي اللازم للمقاومة.
في المجمل، تتجه الأنظار جميعها الآن إلى المواقف الرسمية والإجراءات العملياتية لحزب الله، وكل تحرك عسكري من جانب الحزب لا يبلغ العدو رسالة القوة الرادعة وقدرة المقاومة فحسب، بل يظهر أيضاً أن لحزب الله في مواجهة العدوان والتهديد نهجاً ذكياً واستراتيجياً قادراً على تغيير معادلة الردع، وإلحاق أعباء استراتيجية جديدة بالكيان الصهيوني.
