الوقت- في تطورٍ لافتٍ من الانتقادات العربية ضد السياسات الأمريكية، وجّهت الحكومة اليمنية عبر حركة أنصار الله و السيىد عبد الملك الحوثي اتهاماً صريحاً للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالمشاركة الفعلية في ما وصفته بـ«الإبادة الجماعية» ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ويأتي هذا الاتهام في سياق استمرار الحرب المدمّرة التي تشنّها "إسرائيل" على غزة منذ أكتوبر 2023، وما تخلّلها من مآسٍ إنسانية غير مسبوقة، وسط دعمٍ أمريكي واضحٍ لـ"إسرائيل" سياسياً وعسكرياً، الاتهام اليمني يعبّر عن موقفٍ سياسيٍّ حادٍّ لكنه أيضاً يثير تساؤلاتٍ حقيقية حول مسؤولية ترامب والإدارة الأمريكية في تغذية الصراع وتحويله إلى كارثةٍ إنسانيةٍ مستمرة.
تبدأ خلفية هذا الاتهام من الخطة التي أعلنها ترامب مطلع عام 2025 تحت مسمّى «خطة العشرين بنداً» لإعادة تنظيم الأوضاع في غزة، هذه الخطة تضمّنت، حسب ما أوردته عدة مواقع إخبارية من بينها موقع العربي الجديد والجزيرة وبرس تي في، بنوداً تتعلق بتبادل الأسرى، وانسحابٍ مرحليٍّ للقوات الإسرائيلية، ونزعٍ لسلاح حركة حماس، مقابل إعادة إعمار القطاع بمشاركةٍ دولية، لكن الخطة وُوجهت منذ اللحظة الأولى برفضٍ فلسطينيٍّ وعربيٍّ واسع، إذ رآها منتقدوها محاولةً لإعادة هندسة الواقع السياسي في غزة بما يخدم المصالح الإسرائيلية، ويقضي فعلياً على أي إمكانيةٍ لسيادةٍ فلسطينيةٍ مستقلة، بالنسبة لليمن، ولا سيّما لحركة أنصار الله، اعتُبرت الخطة دليلاً جديداً على تواطؤ واشنطن في مشروعٍ يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية.
في صنعاء، أعلن السيد عبد الملك الحوثي في خطابٍ متلفز في أكتوبر 2025 أنّ الولايات المتحدة «المهندس الأول للإبادة الجماعية في غزة»، وأنّ خطة ترامب ليست سوى «مخطّطٍ إسرائيليٍّ مدعومٍ أمريكياً لمحو الفلسطينيين من الوجود».
وفي تصريحاتٍ أخرى في أبريل 2025، اتّهم الحوثي الولايات المتحدة بأنها تشجّع "إسرائيل" على مواصلة حرب الإبادة وتزوّدها بالسلاح، وتمنع في الوقت نفسه دخول المساعدات الإنسانية من غذاءٍ ودواء إلى القطاع، ما يجعل واشنطن – حسب تعبيره – شريكاً مباشراً في الجريمة.
وأشار في خطابٍ سابق نُقل عبر وكالة الأناضول في يناير 2024 إلى أنّ الحصار الأمريكي المفروض على غزة يمثّل وجهاً آخر من وجوه الإبادة البطيئة التي تستهدف المدنيين، مؤكداً أنّ “من يمنع الطعام عن الجائع، والسلاح عن المظلوم، يشارك في قتله”.
هذه المواقف لم تأتِ من فراغ، بل رافقها حراكٌ شعبيٌّ واسع في اليمن، حيث خرجت مظاهراتٌ ضخمة في ميدان السبعين في صنعاء رفضاً لخطة ترامب ودعماً للفلسطينيين، الشعارات المرفوعة في تلك المسيرات ربطت بين الحرب على غزة والسياسات الأمريكية في المنطقة، معتبرةً أن ما يجري ليس مجرد حربٍ بين إسرائيل وحماس، بل مواجهةٌ بين مشروعٍ تحرّريٍّ عربيٍّ وآخر استعماريٍّ تديره واشنطن وتغذّيه تل أبيب، وقد وصفت وسائل الإعلام اليمنية الرسمية ما يجري بأنه «أكبر عملية إبادةٍ ممنهجةٍ في القرن الحادي والعشرين»، وذكرت أنّ الدعم الأمريكي لـ"إسرائيل" تجاوز حدَّ التحالف العسكري التقليدي ليصبح شراكةً في الجريمة.
في المقابل، ينفي ترامب والإدارة الأمريكية كلَّ اتهامٍ بالإبادة أو المشاركة فيها، ويؤكدون أن هدفهم تحقيق «سلامٍ شاملٍ» في الشرق الأوسط، وأن الخطة المقترحة تهدف إلى إنهاء دوامة العنف المستمرة، إلا أنّ تصريحات ترامب خلال مقابلاتٍ إعلامية عدة، وصف فيها هجمات الـ 7 من أكتوبر 2023 بأنها «إبادةٌ على أعلى مستوى» ارتكبتها حماس ضد الإسرائيليين، أثارت غضباً واسعاً في الأوساط العربية والفلسطينية، إذ بدت منحازةً تماماً لرواية الكيان الصهيوني، ومتنكّرةً لمعاناة المدنيين الفلسطينيين الذين سقطوا تحت القصف، هذه التصريحات عمّقت قناعة كثيرين بأنّ الإدارة الأمريكية تتبنّى المنطق الإسرائيلي بالكامل، ولا تولي وزناً للقانون الدولي أو للمبادئ الإنسانية التي تدّعي الدفاع عنها.
من وجهة نظر القانون الدولي، تُعدّ تهمة «الإبادة الجماعية» من أخطر الاتهامات الممكنة، إذ تعني – وفق اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 – ارتكاب أفعالٍ تهدف إلى القضاء الكلي أو الجزئي على جماعةٍ قوميةٍ أو دينيةٍ أو عرقية، وإثبات هذه الجريمة يحتاج إلى دليلٍ على النية المسبقة والممارسة المنهجية، هنا يبرز السؤال: هل تُظهر سياسة ترامب في دعم "إسرائيل" نيةً لإبادة الفلسطينيين أو لتسهيل ذلك؟
صحيحٌ أنه لا توجد حتى الآن وثائق قانونية تثبت صدور أوامر أمريكية مباشرة بارتكاب الإبادة، لكنّ توفير الغطاء السياسي والعسكري لعملياتٍ تُخلّف هذا الكمَّ من الضحايا والدمار يمكن اعتباره شكلاً من أشكال المشاركة غير المباشرة في الجريمة، فحين تزوّد واشنطن إسرائيل بالسلاح الذي يُستخدم في قصف المدنيين، وتمنحها الحماية الدبلوماسية في مجلس الأمن ضد أيّ قرارٍ لوقف إطلاق النار، فهي تُسهم فعلياً في استمرار المذبحة.
من الناحية الإنسانية، فإنّ استمرار الحصار ومنع المساعدات يشكّل جريمةً مستقلة بموجب القانون الدولي الإنساني، إذ يرقى استخدام التجويع كسلاحٍ ضد المدنيين إلى مستوى جريمة حرب، تصريحات السيد عبدالملك التي اتهم فيها واشنطن بعرقلة دخول الدواء والغذاء إلى غزة ليست مجرد دعاية سياسية، بل تستند إلى تقارير من منظماتٍ إنسانيةٍ أمميةٍ حذّرت من مجاعةٍ وشيكة في القطاع، لذلك فإنّ تحميل ترامب جزءاً من المسؤولية عن هذه الكارثة ليس اتهاماً عبثياً، بل صرخةٌ في وجه سياساتٍ ترى في حياة الفلسطينيين تفصيلاً في معادلة القوة.
ومع أن الاتهام اليمني لا يزال سياسياً أكثر منه قانونياً، إلا أنّه يفتح باباً مهماً للمساءلة الأخلاقية، فالدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لا يمكنها أن تتذرّع بمحاربة «الإرهاب» لتبرير دعمها المطلق لعملياتٍ عسكريةٍ تُنتج دماراً بهذا الحجم، والموقف الأمريكي الذي يُبرّر كلّ ما تقوم به "إسرائيل" تحت ذريعة الدفاع عن النفس، بينما يتجاهل آلاف القتلى من المدنيين، يُعدّ ازدواجيةً فاضحة في تطبيق المعايير الإنسانية.
في النهايه، تبدو اتهامات اليمن وعبد الملك الحوثي ضد ترامب وإدارته جزءاً من خطابٍ سياسيٍّ، لكنها أيضاً تعبيرٌ عن غضبٍ عربيٍّ عميقٍ من الدعم الأمريكي اللامحدود لـ"إسرائيل"، هذه الاتهامات، حتى وإن كانت رمزيةً، تسلط الضوء على ضرورة تحقيقٍ دوليٍّ مستقلٍّ في ما جرى في غزة، وعلى الحاجة إلى مساءلة كلّ من قدّم السلاح أو الغطاء السياسي لمجازر موثّقة، إنّ الدفاع عن حقوق الفلسطينيين لا ينبغي أن يكون موقفاً عاطفياً فحسب، بل التزاماً أخلاقياً وقانونياً أمام التاريخ.