الوقت- أثار إعلان اعتذار رسمي من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لقطر بسبب الهجوم على حركة حماس في الدوحة عاصفة من ردود الأفعال في الداخل الإسرائيلي، فبينما كان الهدف المعلن هو تخفيف التوتر الدبلوماسي والحفاظ على قنوات التواصل المفتوحة مع الدوحة، التي تستضيف قيادة حماس وتلعب دور الوسيط في ملفات غزة، تلقّى الإسرائيليون الخبر على نحو صادم، ورأوا فيه تراجعاً عن سياسة القوة التي يتبناها نتنياهو في خطابه العام، هذه المفارقة بين منطق السياسة ومشاعر الشارع جعلت من الاعتذار حدثاً مركزياً يعكس أزمات أعمق في علاقة القيادة بالمجتمع الإسرائيلي.
أسباب الاعتذار: براغماتية تتجاوز الشعارات
حين نتأمل خلفيات هذا الاعتذار، نجد أنه لم يأتِ من فراغ، قطر تمثل بالنسبة لـ"إسرائيل" بوابة ضرورية لإدارة الصراع مع حماس بعيداً عن الواجهة المباشرة، فمن خلال الدوحة تمر المساعدات المالية والإنسانية إلى غزة، ومن خلالها تجري المفاوضات غير المباشرة بشأن الأسرى أو التهدئات المؤقتة، أي توتر مع قطر قد يؤدي إلى إغلاق هذه القناة الحساسة، وهو ما يدركه نتنياهو جيداً، إضافة إلى ذلك، لا يمكن إغفال الضغط الغربي، وخصوصاً الأمريكي، الذي يرى في قطر شريكاً أساسياً في إدارة الأزمات الإقليمية، لذا، قد يكون الاعتذار جزءاً من تفاهمات أوسع تهدف إلى إبقاء الجسور ممدودة وعدم خسارة وسيط مهم في لحظة دقيقة.
كما أن نتنياهو يسعى إلى تفادي عزلة دبلوماسية جديدة في محيطه الخليجي، فبعد خطوات التطبيع مع بعض دول المنطقة، يدرك أن الدخول في مواجهة مفتوحة مع الدوحة قد يعرقل مسار العلاقات مع دول أخرى تراقب الموقف عن كثب، هذه الحسابات، على بساطتها، توضح أن الاعتذار ليس تنازلاً أخلاقياً بقدر ما هو خطوة براغماتية فرضتها الحاجة إلى إدارة ملفات معقدة.
غضب الشارع الإسرائيلي: الكرامة قبل السياسة
غير أن الجمهور الإسرائيلي لم ينظر إلى الاعتذار بالعين ذاتها. فقد بدا للكثيرين وكأنه إهانة وطنية وتراجع عن مبدأ الردع الذي طالما اعتُبر أساس السياسة الأمنية للدولة، المجتمع الإسرائيلي، الذي يعيش منذ عقود في ظل صراع دموي مع حماس، يرى أن أي اعتذار لدولة تستضيف الحركة هو اعتذار غير مباشر للعدو نفسه، هذا الشعور بالمهانة يفسر الغضب الواسع الذي اجتاح الشارع، حيث اعتُبر الاعتذار نوعاً من إذعان غير مقبول.
والأمر لا يتوقف عند الرمزية فحسب، بل يرتبط أيضاً بالتناقض الصارخ بين خطاب نتنياهو التقليدي، القائم على التشدد وإظهار القوة، وبين هذه الخطوة التي توحي باللين والتراجع، كثيرون رأوا أن رئيس الوزراء قدّم لجمهوره صورة معاكسة لما اعتاد أن يروج له، وهو ما عزز شعور فقدان الثقة لديه.
المعارضة السياسية واستثمار الحدث
في الداخل الإسرائيلي، لا يمكن فصل ردود الأفعال الشعبية عن الحسابات السياسية للأحزاب المنافسة، فقد وجدت المعارضة في هذا الاعتذار فرصة ثمينة لتقويض صورة نتنياهو وضرب مصداقيته أمام الرأي العام، فالهجوم عليه جاء سريعاً وقاسياً، وصُوّر الحدث كخيانة للمبادئ الأمنية وتفريط في هيبة الدولة. هذا الاستغلال السياسي زاد من تأجيج الغضب الشعبي، وحوّل الاعتذار من خطوة تكتيكية في السياسة الخارجية إلى أزمة داخلية متشعبة الأبعاد.
التناقض بين الرمزية والواقعية
اللافت في هذه القضية هو التناقض الجوهري بين الرمزية السياسية والواقعية الدبلوماسية، فالاعتذار، في حسابات نتنياهو، وسيلة لضمان استمرار قنوات التفاوض والوساطة، وهو خطوة واقعية تفرضها موازين القوى الإقليمية، لكن في الوعي الشعبي الإسرائيلي، الاعتذار رمز للضعف وفقدان الكرامة الوطنية، هذا التباين جعل من الحدث مادة قابلة للتأويل وفق موقع كل طرف: القادة يرونه ضرورياً لحماية مصالح بعيدة المدى، بينما يراه الجمهور إهانة تمس الكبرياء القومي.
التداعيات المحتملة على صورة نتنياهو
لا شك أن الاعتذار سيترك أثراً سلبياً على صورة نتنياهو، حتى وإن حاول التخفيف من وقعه إعلامياً، فالمعارضة ستواصل استغلال الحدث كدليل على تناقضاته وضعفه، والجمهور سيحفظ هذه الخطوة في ذاكرته كواحدة من اللحظات التي أُهينت فيها صورة الدولة أمام دولة يُنظر إليها كداعم مباشر لحماس. ومن هنا، يمكن القول إن الضرر السياسي ربما يفوق المكاسب الدبلوماسية على المدى القصير، رغم أن نتنياهو يعوّل على براغماتية الجمهور الذي قد يتقبل مع الوقت مبررات الواقعية السياسية.
معضلة التوازن بين الداخل والخارج
في المحصلة، يكشف اعتذار نتنياهو لقطر عن عمق المعضلة التي يواجهها أي قائد إسرائيلي في الموازنة بين ضرورات السياسة الخارجية ومتطلبات الداخل، فبينما تفرض الحسابات الاستراتيجية أحياناً اتخاذ خطوات لا تحظى بشعبية، يبقى الشارع أسير الرموز والشعارات التي تغذي شعوره بالقوة والهيبة، وما حدث يوضح أن أي تنازل رمزي، حتى لو كان يخدم أهدافاً بعيدة المدى، قد يتحول بسرعة إلى أزمة سياسية داخلية، هكذا يجد نتنياهو نفسه عالقاً بين براغماتية ضرورية في الخارج وغضب لا يرحم في الداخل، في مشهد يلخص مأزق القيادة الإسرائيلية بين الواقع والرمز.