الوقت – في الوقت الذي يرزح فيه كيان الاحتلال تحت وطأة ضعفٍ عسكريٍّ مدقعٍ وارتباكٍ اقتصاديٍّ مُنهِك، عقب عامين من حربٍ استنزافيةٍ طاحنةٍ في غزة والجبهة الشمالية، تلوح في الأفق أزمةٌ داخلية أشدّ وطأةً، تهدد حكومة بنيامين نتنياهو بزلزالٍ سياسيٍ عميق: قضية التجنيد الإجباري للحريديم، تلك الفئة التي تُعرف بتشددها الديني وتقوقعها الاجتماعي.
لطالما كانت هذه القضية أشبه بقنبلةٍ موقوتة تُزرع في قلب النظام السياسي للكيان، غير أنها بلغت الآن نقطة الانفجار، بعد أحداث طوفان الأقصى التي أزهقت أرواحاً غزيرةً من جنود الاحتلال، وأثقلت كاهل جيشه بخسائر فادحة، وقد انقلبت بوصلة الرأي العام في الأراضي المحتلة باتجاه فرض التجنيد الإجباري على الحريديم، لتغدو هذه القضية أعظم تهديدٍ سياسيٍ يواجهه نتنياهو، الذي يعتمد اعتماداً شبه مطلق على دعم الأحزاب الحريدية لضمان بقائه السياسي، في ظل دوامة قضايا الفساد التي تطوّقه من كل جانب.
إن الإعفاء الذي كان في البداية محصوراً على بضع مئات من طلاب الدراسات الدينية، في زمن بن غوريون، امتد اليوم ليستوعب أربعة عشر بالمئة من سكان الكيان، إذ يُعفى نحو سبعين ألف رجل من الخدمة العسكرية، فيما يُجبر الشباب العلمانيون وحتى المتدينون المعتدلون على قضاء سنوات طويلة في الخدمة العسكرية، وقد قُتل منهم المئات في الحرب الأخيرة، دون أن يطال الحريديم أي عبءٍ عسكريٍ يذكر.
وفي العام الماضي، أصدرت المحكمة العليا للكيان حكماً حاسماً أنهى كل التمديدات المؤقتة للإعفاءات الممنوحة للحريديم، وألزمت الحكومة بتنفيذ قانون التجنيد الإجباري، وكانت النتيجة إصدار أربعةٍ وعشرين ألف أمر استدعاء خلال سنة واحدة، غير أن المفاجأة المدوية تجلّت في استجابة ألفٍ ومئتي شخصٍ فقط، بينما اختار بقية المطلوبين الهروب أو خوض مواجهاتٍ عنيفةٍ في وجه السلطات.
وقد امتدت شرارة التوترات إلى شوارع القدس المحتلة، حيث شهدت المدينة مظاهراتٍ صاخبةً شارك فيها عشرات الآلاف من الحريديم، كما شهدت اعتداءاتٍ على أعضاء البرلمان الحريديين ومحاصرة أفراد الشرطة العسكرية، ولم تقتصر المقاومة على ذلك، بل أُنشئت شبكةٌ سريةٌ للتواصل تُعرف باسم “الإنذار الأسود”، تهدف إلى إحباط محاولات السلطات للقبض على الفارين من التجنيد.
وكيان الاحتلال، الذي طالما تغنّى بأنه “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، يجد نفسه اليوم أمام أزمةٍ تهزّ أركانه، اعترفت بها حتى وسائل الإعلام الغربية، فقد أظهرت استطلاعاتٌ أجرتها مؤسسة الديمقراطية الإسرائيلية أن خمسةً وثمانين بالمئة من الصهاينة غير الحريديم يطالبون بفرض عقوباتٍ صارمةٍ على الفارين من التجنيد، تبدأ بقطع المساعدات الاجتماعية والمزايا المالية، وتمر بسحب حقوق التصويت، وتنتهي بحرمانهم من جوازات السفر. وحتى داخل حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو، أعرب نحو خمسةٍ وسبعين بالمئة من الأعضاء عن تأييدهم لهذه العقوبات، ما ينبئ بتصدّعٍ عميقٍ في قاعدة نتنياهو السياسية، التي كانت إلى عهدٍ قريبٍ حصناً منيعاً له.
أما العلمانيون في تل أبيب، الذين دفعوا ثمناً باهظاً في الحرب الأخيرة، فغضبهم يتأجج كالنار في الهشيم. وقد عبّر أحدهم، في تصريحٍ لصحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، عن حالة السخط المتفشية بقوله: “هناك من يعيشون في هذه البلاد دون أن يقدموا لها شيئاً يُذكر”.
وقالت شابة يهودية بلهجةٍ صارمة: “مهما بلغ المرء من التديّن، فلا ينبغي أن يكون ذلك ذريعةً للتملّص من واجب الخدمة العسكرية”، حتى المتدينون المعتدلون، ممن لا ينتمون إلى الحريديم، انضموا إلى هذه الدعوة، وفي بني براك، معقل الحريديم، قال أحد السكان: “أنا أحب التوراة، لكن الكتاب والسيف يجب أن يترافقا جنباً إلى جنب”. وأشار إلى نصبٍ تذكاريٍ أقيم لتخليد قتلى الحروب، مضيفاً: “منذ عام 1983، لم يُقتل أي جندي من حيّنا، لأننا ببساطة لا نخدم في الجيش”.
أما بنيامين نتنياهو، الذي تتشابك حياته السياسية مع الأحزاب الحريدية، إذ يقدمون له الدعم السياسي في مواجهة قضايا الفساد التي تحاصره مقابل ضمان استمرار إعفاء أنصارهم من الخدمة العسكرية، فقد حاول كسب الوقت عبر تقديم مشروع قانونٍ هزيل، لا يرقى إلى مستوى الأزمة العاصفة، ينص هذا القانون على تجنيد من لا يلتزمون بالدراسة الدينية بشكلٍ كامل، مع رفع العقوبات عن المتهربين بعد تجاوزهم سن السادسة والعشرين، وهو ما يعني عملياً الإبقاء على الوضع الراهن دون تغيير، حتى أنصاره في الكنيست لم يترددوا في وصف هذا القانون بأنه “أكثر ليونةً مما ينبغي”، أما يائير لابيد، زعيم المعارضة، فقد وصفه بأنه “خيانة عظمى”، وأقسم أن لا يسمح بتمريره تحت أي ظرف. بل إن بعض أعضاء حزب الليكود نفسه رفضوا دعم هذا المشروع.
تزاحمت الانتقادات من داخل الكيان، وكان من أبرزها تصريح تزاحي هانغبي، مستشار الأمن القومي السابق، الذي أقاله نتنياهو قبل أسابيع قليلة، إذ وصف مشروع القانون بأنه “مجرد حيلة للهروب”، محذراً من أن هذا التخاذل يهدد مستقبل الكيان الصهيوني بأسره.
وعلى الجانب الآخر، لم تسلم صفوف الحريديم من الانقسام. فقد أبدى حزب “دغل هتوراه”، المعروف بتشدده، استعداده لقبول هذا القانون رغم ضعفه، خشية أن يؤدي سقوط نتنياهو إلى انهيار التحالف الذي يحمي امتيازاتهم، لكن الحاخامات الأكثر تطرفاً، أمثال تزماخ مازوز، أعلنوا رفضهم القاطع لأي تنازلات، قائلين: “نحن نحمي جنودكم بدراستنا للتوراة”، وهددوا بأنهم سيواجهون أي ضغطٍ بمقاومةٍ مدنيةٍ قد تصل إلى السجن إن اقتضى الأمر.
هذه الأزمة تتجاوز قضية التجنيد الإجباري، فهي في حقيقتها معركةٌ على هوية الكيان الصهيوني نفسه، فمن جهة، هناك العلمانيون والمتدينون المعتدلون، الذين يطالبون بالمساواة في تحمل الأعباء قائلين: “على الجميع أن يدفع نصيبه”، ومن جهة أخرى، هناك الحريديم الذين يصرّون على أن “هذا كيانٌ يهودي، ولا يمكن محاربة اليهودية داخله”.
أما نتنياهو، الذي سبق أن خسر حكومته مرتين في الماضي بسبب هذه القضية، فقد بات اليوم في مواجهةٍ لا فكاك منها، محاصراً بين مطرقة الحريديم وسندان الرأي العام، فإن قدّم التنازلات للحريديم، خسر تأييد الشعب وأجزاءً من تحالفه السياسي، وإن مارس الضغط عليهم، انسحبت الأحزاب الحريدية من الائتلاف الحاكم، ما يؤدي إلى انهيار حكومته، وكل ذلك يحدث في وقتٍ حساسٍ للغاية، إذ إن الانتخابات العامة تلوح في الأفق، ولا مجال للخطأ أو التهاون.
وقد اعترفت وسائل الإعلام الصهيونية والغربية على حدٍ سواء بأن هذه الأزمة تحمل في طياتها نذر انفجارٍ سياسيٍ قد يطيح بالحكومة، بل قد ينسف الكيان من الداخل، ففي الوقت الذي ترزح فيه تل أبيب تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تفرضها المقاومة في غزة ولبنان، تبدو هذه الانقسامات الداخلية أشبه بنقطة ضعفٍ استراتيجيةٍ تهدد وجود الكيان ذاته.
إن الكيان الذي ظلّ واقفاً على قدميه بفضل قوة السلاح ودعم الولايات المتحدة، بات اليوم على شفا الانهيار بفعل تناقضاته الداخلية، كأنما يسقط بأيدي أبنائه الذين شيدوه، ولعلّ ما قاله الحاخام مازوز دون قصدٍ يلخّص الحقيقة: “العالم تديره يد الله”، والتاريخ، الذي لا يعرف الهوادة، قد أثبت مراراً وتكراراً أن هذا الكيان الزائف لم يدم طويلاً، ولن يدوم أبداً.
