الوقت- يشهد العالم اليوم جدلاً متصاعداً حول مستقبل مقر منظمة الأمم المتحدة في نيويورك، بعد أن اتخذت الإدارة الأمريكية قرارات متعنتة وغير مسبوقة تجاه قادة دول أعضاء في المنظمة، فقد أقدمت واشنطن على إلغاء تأشيرة الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو عقب انتقاده للإبادة الجماعية في غزة ومشاركته في مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين، كما رفضت سابقاً منح تأشيرة للرئيس الفلسطيني محمود عباس، وقيّدت حركة الوفد الإيراني المشارك في اجتماعات الجمعية العامة، هذه الممارسات وضعت الولايات المتحدة في مواجهة اتهامات بانتهاك القانون الدولي ومبادئ الأمم المتحدة نفسها، التي يفترض أن مقرها محايد ومتاح لجميع الدول الأعضاء.
هذا التطور أثار موجة واسعة من الانتقادات، وكان أبرزها من الرئيس الكولومبي الذي دعا إلى نقل مقر الأمم المتحدة من نيويورك إلى العاصمة القطرية الدوحة، باعتبارها "مكاناً أكثر ديمقراطية" حسب وصفه، وهو مقترح يعكس شعوراً متنامياً بعدم قدرة الأمم المتحدة على ممارسة دورها في ظل سطوة واشنطن.
واشنطن والتأشيرات: سلاح سياسي تحت غطاء سيادي
من الناحية النظرية، تلتزم الولايات المتحدة، بصفتها الدولة المضيفة لمقر الأمم المتحدة، بمنح تأشيرات دخول لجميع قادة الدول والوفود المشاركة في اجتماعات المنظمة الدولية، وذلك استناداً إلى "اتفاقية مقر الأمم المتحدة" الموقعة عام 1947، هذه الاتفاقية تفرض على الدولة المضيفة تسهيل عمل المنظمة وضمان حيادها، لكن الممارسات الأمريكية الأخيرة، بإلغاء أو رفض منح التأشيرات، تكشف عن استخدام ملف التأشيرات كسلاح سياسي لمعاقبة الأصوات المعارضة للسياسات الأمريكية أو الإسرائيلية.
إلغاء تأشيرة الرئيس الكولومبي لم يكن حدثاً معزولاً، بل جاء بعد سلسلة من الإجراءات التعسفية، منها التضييق على الوفود الإيرانية ومنع دخول بعض الدبلوماسيين الروس سابقاً، الولايات المتحدة تبرر ذلك باعتبارات "الأمن القومي"، لكن الواقع يُظهر أن السبب سياسي بامتياز، يرتبط بمواقف هذه الدول من القضية الفلسطينية أو من سياسات واشنطن العالمية.
بيترو: صوت حر يزعج واشنطن
الرئيس غوستافو بيترو لم يتردد في توجيه انتقادات لاذعة للولايات المتحدة و"إسرائيل"، فقد وصف ما يجري في غزة بأنه "إبادة جماعية" تستوجب محاكمة ومعاقبة مرتكبيها، وأكد أن "القانون الدولي هو حكمة الإنسانية وهو الذي يحميني"، لم يكتفِ بيترو بذلك، بل دعا إلى تشكيل قوة مسلحة عالمية أولويتها تحرير فلسطين، على أن تكون أكبر من قوة الولايات المتحدة.
رد واشنطن بإلغاء تأشيرته بعد هذه التصريحات، اعتُبر إشارة واضحة على أن حرية الرأي لا تُحترم عندما تتعارض مع المصالح الأمريكية، فبدلاً من احترام حق رئيس منتخب في التعبير عن مواقفه في منصة دولية، اختارت واشنطن إسكاته وإبعاده عن الأراضي الأمريكية.
هذا الإجراء جعل بيترو يذهب أبعد من مجرد التنديد، حيث دعا بشكل صريح إلى نقل مقر الأمم المتحدة إلى مكان آخر، مفضلاً الدوحة التي وصفها بأنها أكثر ديمقراطية، هذا الطرح لم يأتِ من فراغ، بل يعكس أزمة ثقة حقيقية في قدرة الأمم المتحدة على لعب دورها من داخل نيويورك.
تسييس مبادئ الأمم المتحدة
القضية لا تتعلق ببيترو وحده، ففي السنوات الماضية، منعت الولايات المتحدة دخول ممثلين فلسطينيين أو قيدت تحركاتهم بشكل مهين، أبرزهم الرئيس محمود عباس. كما فرضت قيوداً مشددة على الوفد الإيراني، ما يعرقل مشاركته الفاعلة في النقاشات الأممية، هذه السياسات تنسف جوهر مبادئ الأمم المتحدة، القائمة على المساواة بين الدول الأعضاء وعدم التمييز بينها.
فكيف يمكن لمنظمة تزعم أنها تجسد "إرادة المجتمع الدولي" أن تعمل بشكل نزيه، بينما الدولة المضيفة تتحكم بمن يدخل ويخرج، وفق حساباتها السياسية؟ هذا التناقض يضعف من شرعية الأمم المتحدة نفسها، ويثير تساؤلات عميقة حول ما إذا كانت المنظمة قد تحولت إلى أداة ضمن منظومة النفوذ الأمريكي.
بين القانون الدولي والهيمنة السياسية
اتفاقية مقر الأمم المتحدة تنص بوضوح على التزامات الولايات المتحدة كمضيف، لكن ما حدث مع الرئيس الكولومبي وغيره يعكس انتهاكاً صارخاً لهذه الالتزامات، إذ لا يحق لواشنطن حرمان أي رئيس أو وفد من حضور الاجتماعات الرسمية بحجج سياسية، ومع ذلك، نرى أن الإدارة الأمريكية تضع اعتبارات هيمنتها فوق التزاماتها الدولية، ما يفتح الباب أمام نقاش عالمي حول ضرورة مراجعة هذه الوضعية.
النقاش هنا يتجاوز المسألة الإجرائية إلى جوهر التوازنات الدولية، فوجود المقر في نيويورك يعطي الولايات المتحدة ميزة استراتيجية ضخمة، من خلال مراقبة الوفود والتأثير في أنشطتها وحتى التحكم بوسائل الإعلام المحيطة بالمنظمة، لكن هذا الوضع الذي كان مقبولاً خلال عقود الحرب الباردة، لم يعد صالحاً في ظل عالم متعدد الأقطاب، حيث تطالب قوى ناشئة مثل الصين وروسيا وبلدان الجنوب العالمي بمزيد من العدالة والحياد.
مقترح نقل المقر: بين الواقع والطموح
دعوة بيترو لنقل مقر الأمم المتحدة إلى الدوحة قد تبدو للوهلة الأولى مثيرة للجدل، لكنها تعبّر عن شعور واسع بأن المنظمة لم تعد قادرة على العمل بشكل مستقل من داخل الولايات المتحدة، الدوحة، التي تحولت إلى مركز دبلوماسي عالمي في السنوات الأخيرة، تُطرح كخيار بديل يمتاز بالحياد النسبي والقدرة على استضافة حوارات معقدة.
لكن نقل المقر ليس بالأمر السهل، فذلك يتطلب موافقة أغلبية الدول الأعضاء، إضافة إلى ترتيبات مالية ولوجستية ضخمة، غير أن مجرد طرح الفكرة يفتح الباب أمام نقاش أوسع حول إصلاح الأمم المتحدة وضمان استقلالها.
مقارنة تاريخية: سابقة كولومبية وسوابق أمريكية
اللافت أن هذه ليست المرة الأولى التي تُلغى فيها تأشيرة رئيس كولومبي. ففي عام 1996، ألغت الولايات المتحدة تأشيرة الرئيس إرنستو سامبر بسبب فضيحة سياسية، لكن الفارق أن إلغاء تأشيرة بيترو جاء لأسباب سياسية متعلقة بموقفه من فلسطين، ما يجعله أكثر حساسية على الصعيد الدولي.
كما أن العلاقات بين واشنطن وبوغوتا شهدت توتراً متزايداً منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، إذ رفض بيترو سابقاً استقبال رحلات مهاجرين مرحلين من الولايات المتحدة، واتهم مسؤولين أمريكيين بالتخطيط لانقلاب ضده، هذه التوترات تفسر جزئياً قرار واشنطن، لكنها لا تبرر خرقها للقانون الدولي.
أزمة شرعية أم فرصة إصلاح؟
إلغاء تأشيرة بيترو ليس مجرد حادثة بروتوكولية، بل يكشف أزمة عميقة في بنية الأمم المتحدة، التي باتت أسيرة لمقرها الأمريكي، فإذا كانت المنظمة عاجزة عن ضمان حضور قادتها إلى اجتماعاتها، فكيف يمكنها أن تدّعي تمثيل الإرادة الدولية؟
لكن هذه الأزمة يمكن أن تتحول إلى فرصة، فالمطالبات بنقل المقر أو على الأقل بتقليص نفوذ الدولة المضيفة قد تفتح المجال لإصلاحات جذرية، تعيد للأمم المتحدة جزءاً من مصداقيتها، وربما يشكل ذلك نقطة انطلاق لنظام عالمي أكثر عدلاً وتوازناً، بعيداً عن الهيمنة الأحادية.
ما بعد نيويورك
المشهد الحالي يضع المجتمع الدولي أمام مفترق طرق، إما أن تستمر الأمم المتحدة في التبعية للهيمنة الأمريكية، ما يعني فقدانها لمزيد من المصداقية، أو أن تستجيب لمطالب قادة مثل بيترو وتعيد النظر في مقرها وهياكلها.
القضية الفلسطينية، التي كانت سبباً مباشراً في أزمة بيترو مع واشنطن، أصبحت رمزاً لامتحان الضمير العالمي، فإما أن يتمسك العالم بمبادئ القانون الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها، أو أن يظل صامتاً أمام ابتزاز سياسي يفرغ الأمم المتحدة من مضمونها.
وفي النهاية، فإن طرح فكرة نقل مقر المنظمة، سواء إلى الدوحة أو إلى أي مكان آخر أكثر حياداً، لم يعد مجرد رفاهية سياسية، بل أصبح ضرورة ملحّة إذا أرادت الأمم المتحدة أن تستعيد دورها كمنبر حقيقي للشعوب، لا كأداة خاضعة لسطوة إدارة أمريكية أو رئيس مثل ترامب.