الوقت- لم يعد الحديث عن العزلة الاقتصادية لـ"إسرائيل" مجرّد توقعات أو تحليلات أكاديمية، بل بات واقعاً يتجلى في الأرقام، العقود الملغاة، والمواقف المتزايدة من حكومات وشعوب العالم ضدها، فمنذ اندلاع حربها الإجرامية على غزة، وما رافقها من صور توثّق المجازر والإبادة الجماعية، بدأت الأسواق الدولية تنظر إلى الكيان نظرة مختلفة، علاقات تجارية كانت بالأمس القريب مبنية على الترحيب والتعاون، تحولت اليوم إلى سرّية، خجولة، بل مرفوضة في كثير من الأحيان، وبات الصناعيون الإسرائيليون أنفسهم يقرّون بأن العلاقات التجارية وصلت إلى أسوأ مراحلها في تاريخ الكيان.
من الترحيب إلى الخفاء: عزلة غير مسبوقة
يكشف رئيس اتحاد المصنعين الإسرائيليين، رون تومر، عن حادثة تعكس حجم التحول: خلال اجتماع لوفد اقتصادي إسرائيلي في "دولة صديقة جداً"، تلقى المشاركون بعد ساعات فقط رسالة عبر "واتساب" تطالبهم بحذف صور الاجتماع وعدم الإعلان عن اللقاء، يعلّق تومر قائلاً: "اندهشنا، في الماضي كنا نستقبل بترحاب كبير ووقعنا عقوداً ممتازة، لكن الوضع تغيّر جذرياً الآن".
هذا المشهد يلخّص التحول الدراماتيكي: من كيان كان يفتخر بعلاقاته التجارية مع أوروبا وأميركا وآسيا، إلى كيان مجبر على عدم الإعلان عن اجتماعاته الاقتصادية حتى، إنّها بداية عزلة اقتصادية خانقة لا يمكن إخفاؤها.
عقود ملغاة وأسواق مغلقة
حسب تقارير يديعوت أحرونوت، فإن الأسابيع الأخيرة شهدت موجة غير مسبوقة من إلغاء العقود التجارية مع المصانع والشركات الإسرائيلية، شركات أوروبية وأمريكية أوقفت فجأة استيراد منتجات إسرائيلية، فيما رفضت شركات أخرى تجديد عقود قائمة، المسح الذي أجراه اتحاد المصنعين الإسرائيليين أظهر أنّ:
نحو نصف المصدرين فقدوا عقوداً قائمة أو لم تُجدَّد.
71% من الإلغاءات تمت لأسباب سياسية مباشرة مرتبطة بالحرب على غزة.
الاتحاد الأوروبي تصدّر المشهد؛ إذ قال 84% من المصنعين إن دوله ألغت صفقاتهم.
31% من المصدرين واجهوا إلغاء عقود من الولايات المتحدة.
76% أكدوا أنّ الحرب أضرّت بصادراتهم، و21% منهم قالوا إن الضرر تجاوز 40%.
54% ذكروا أن عملاء جدداً رفضوا التعاون مع "إسرائيل".
هذه الأرقام ليست مجرد تفاصيل تجارية؛ إنها مؤشر على تحوّل الصورة الذهنية لـ"إسرائيل" من شريك اقتصادي إلى كيان منبوذ لا يرغب أحد في الارتباط به.
مقاطعة شعبية تتوسع
لم يكن هذا الانهيار التجاري نتيجة قرارات حكومية فقط، بل جاء مدفوعاً أيضاً بمقاطعة شعبية واسعة، فصور القصف الوحشي للمستشفيات والمدارس في غزة دفعت المستهلكين في أوروبا وأمريكا اللاتينية وحتى آسيا إلى الضغط على الشركات لوقف التعامل مع المنتجات الإسرائيلية، هذا الضغط الشعبي أحرج الحكومات والشركات الكبرى، وأجبرها على إعادة النظر في عقودها، خوفاً من خسارة سمعتها في أسواقها المحلية.
المقاطعة هنا لم تعد مجرّد حركة رمزية، بل أصبحت أداة عملية تؤثر في قرارات اقتصادية كبرى، وتساهم في عزل الكيان عن الأسواق العالمية.
جريمة الإبادة الجماعية وتداعياتها الاقتصادية
لم يعد العالم قادراً على تجاهل صور الإبادة الجماعية في غزة، الجرائم الموثقة، بما فيها استهداف المدنيين وحرمانهم من المساعدات، جعلت الشركات والحكومات تخشى أن ترتبط أسماؤها تجارياً مع "إسرائيل"، فالتعامل مع كيان متهم بارتكاب جرائم حرب لم يعد مجرد مسألة اقتصادية، بل قضية أخلاقية وسياسية.
لقد تحولت المجازر إلى عامل اقتصادي ضاغط، حيث لم يعد من الممكن الفصل بين صورة "إسرائيل" العسكرية وصورتها الاقتصادية، والنتيجة: عزلة مضاعفة، سياسية وأخلاقية، انعكست مباشرة على التجارة والاستثمار.
تراجع الثقة الدولية وتحذيرات "موديز"
وكالة التصنيف الائتماني العالمية "موديز" حذرت من خفض تصنيف "إسرائيل" السيادي، بعد زيارتها الأخيرة وتقييمها لتداعيات الحرب، ممثلو الوكالة أعربوا عن قلقهم من حجم الإنفاق العسكري والعجز المالي المتنامي، وهو ما يهدد بزعزعة الثقة الدولية في الاقتصاد الإسرائيلي، أحد المسؤولين الإسرائيليين الذين حضروا اللقاءات قال صراحة: "سيكون أشبه بالمعجزة إذا لم يتم خفض التصنيف خلال الأسبوعين المقبلين".
خفض التصنيف الائتماني يعني زيادة تكلفة الاقتراض، تراجع ثقة المستثمرين، وتباطؤ تدفق الاستثمارات الأجنبية، وهي عناصر قد تدفع الاقتصاد الإسرائيلي إلى دوامة ركود عميق.
انهيار العلامة التجارية الإسرائيلية
حتى في الأسواق التي كانت تاريخياً داعمة لـ"إسرائيل"، باتت صورة المنتجات الإسرائيلية في تدهور، الصناعيون أنفسهم يقرّون بأن "العلامة التجارية الإسرائيلية" تضررت بشدة، وأن بيع المنتجات بات صعباً حتى للدول الصديقة، أحدهم عبّر بوضوح: "لقد حُكم علينا بالعزلة الكاملة، نشعر أننا منبوذون في العالم بأسره".
إن سقوط العلامة التجارية لا يعني فقط خسارة عقود آنية، بل يشير إلى أزمة طويلة الأمد قد تجعل استعادة الثقة أمراً شبه مستحيل، فحين تصبح صورة الدولة مرتبطة بالدمار والإبادة، يصعب على منتجاتها أن تجد مكاناً في رفوف المتاجر العالمية.
أزمات مالية متصاعدة
إلى جانب العزلة التجارية، يواجه الاقتصاد الإسرائيلي أزمات داخلية عميقة:
تضخم الإنفاق العسكري: تقديرات تتحدث عن 60 مليار شيكل إضافية لتغطية تكاليف احتلال غزة.
عجز متنامٍ في الموازنة: مع تراجع الإيرادات الضريبية بسبب تباطؤ الاقتصاد.
تراجع الاستهلاك الفردي: أحد ركائز النمو الاقتصادي.
انكماش اقتصادي: مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي عدّل نسبة الانكماش في الربع الثاني إلى 4%.
كل ذلك يرافقه خوف متزايد من هروب الاستثمارات ورأس المال البشري، وخصوصاً من جيل الشباب.
تخبط نتنياهو وخطاب "إسبارطة"
في خضم هذه الأزمة، ألقى نتنياهو خطاباً صادماً قال فيه إن إسرائيل قد تضطر إلى اعتماد اقتصاد "إسبارطي" منغلق على نفسه، في إشارة إلى نموذج "الأوتاركية"، هذه التصريحات أشعلت حالة من الذعر بين المستثمرين، وأدت إلى تراجعات في البورصة تراوحت بين 2% و7% في بعض القطاعات.
وبعد يوم واحد فقط، حاول نتنياهو التراجع قائلاً إن تصريحاته فُهمت خطأ، وإن الاقتصاد الإسرائيلي "ينتعش" بارتفاع البورصات وتعزيز الشيكل، لكن التقارير الرسمية أظهرت العكس: تراجع دخل الفرد إلى مستوى 2021، وانكماش اقتصادي متسارع.
تصريحات نتنياهو لم تُقنع أحداً، بل زادت القلق والشكوك بشأن قدرة حكومته على إدارة الأزمة، وهو ما دفع 80 خبيراً إسرائيلياً بارزاً إلى نشر وثيقة تحذّر من "كارثة اقتصادية غير مسبوقة".
التحول من قوة منفتحة إلى كيان منغلق
"إسرائيل" بنت اقتصادها على الانفتاح والتجارة الحرة، حيث شكّلت الصادرات رافعة النمو الأساسية منذ خمسينيات القرن الماضي، لكن الحرب على غزة، وسياسة نتنياهو القائمة على الاحتلال والاستيطان، تدفع الاقتصاد إلى الانغلاق والعزلة.
المحللون الإسرائيليون أنفسهم حذّروا من أن المقارنة مع كوريا الشمالية أو إيران باتت واقعية، حيث تتحول "إسرائيل" من اقتصاد متقدم إلى اقتصاد مكتفٍ ذاتياً، فاقد القدرة على النمو والازدهار.
تأثير العزلة الاقتصادية على الناتج المحلي
مع استمرار إلغاء العقود وتراجع الصادرات، تشير التقديرات إلى أن الناتج المحلي الإسرائيلي سيتراجع بشكل ملموس، بعض الخبراء يتحدثون عن خسارة تعادل 5% من الناتج المحلي، وهو ما يعني تدهور مستوى المعيشة وتراجع قدرة الدولة على تمويل الخدمات الأساسية.
الأخطر من ذلك، أنّ الاستثمار في قطاع التكنولوجيا، الذي كان يُعتبر "الكنز الإسرائيلي"، بدأ يتراجع بسبب فقدان الثقة الدولية، وهو ما يهدد جوهر الاقتصاد الإسرائيلي.
ختام القول
العزلة الاقتصادية التي يمر بها كيان الاحتلال الإسرائيلي ليست أزمة عابرة، بل تحوّل استراتيجي عميق، يعبّر عن تراجع مكانة الكيان على الساحة الدولية. الأسباب واضحة: جرائم الحرب، الإبادة الجماعية، المقاطعة الشعبية، إلغاء العقود، وتخبط القيادة السياسية.
لقد تحولت صورة إسرائيل من "شريك اقتصادي مرحب به" إلى "كيان منبوذ"، ومع استمرار الحرب على غزة، يبدو أن هذه العزلة مرشحة للتعمق أكثر. وإذا تحقق خفض التصنيف الائتماني، فإن إسرائيل لن تواجه أزمة اقتصادية فقط، بل أزمة وجودية تهدد استقرارها كله.