الوقت- كل منخفض جوي يضرب قطاع غزة، يتجدد فصل آخر من فصول المعاناة الإنسانية للنازحين الذين يعيشون في خيام مهترئة لا تقي بردًا ولا مطرًا. فالشتاء في غزة لم يعد مجرد حالة مناخية عابرة، بل أصبح تهديدًا مباشرًا للحياة، خاصة في ظل الدمار الواسع الذي حوّل مئات آلاف الفلسطينيين إلى نازحين بلا مأوى حقيقي.
خيام تغرق… وأجساد ترتجف
خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، تلقى جهاز الدفاع المدني في غزة أكثر من 2500 مناشدة من نازحين غمرت مياه الأمطار خيامهم بفعل المنخفض الجوي العاصف. آلاف الخيام غرقت منذ فجر الأربعاء نتيجة الأمطار الغزيرة والرياح القوية، ما أجبر عائلات كاملة على البقاء وسط المياه والوحل، بلا أغطية جافة أو وسائل تدفئة، في ظروف تفتقر إلى أدنى مقومات السلامة.
تحذيرات صحية من كارثة صامتة
مدير عام وزارة الصحة في غزة، منير البرش، حذّر من خطر وفاة أطفال وكبار سن ومرضى بسبب انخفاض درجات الحرارة داخل خيام النازحين. وأكد أن البرد والرطوبة يؤديان إلى فقدان حرارة الجسم، وتدهور في وظائف التنفس، وقد يصل الأمر إلى الوفاة، خصوصًا في ظل المجاعة وضعف المناعة ونقص الرعاية الصحية. وأشار إلى أن الرطوبة والمياه الراكدة داخل الخيام تشكل بيئة خصبة لانتشار الالتهاب الرئوي وأمراض الجهاز التنفسي.
ضحايا بلا قصف: أطفال يموتون بردًا
في مشاهد صادمة، تداول ناشطون مقاطع تُظهر وفاة رضيع وطفلة في خيام النازحين، قيل إنهما قضيا بسبب البرد القارس. أحد أفراد عائلة الرضيعة قال أمام الكاميرا: “قتلها البرد… الأطفال بموتوا واحد واحد”. هذه الحوادث تعكس حقيقة مؤلمة: في غزة، لا يحتاج الموت إلى قذيفة، فالشتاء وحده كافٍ لانتزاع الأرواح حين تغيب الحماية.
خيام غير صالحة للحياة
وفق تقديرات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن نحو 93% من الخيام لم تعد صالحة للإقامة، أي ما يقارب 125 ألف خيمة من أصل 135 ألفًا. كثير من هذه الخيام تضرر بفعل القصف الإسرائيلي المباشر أو غير المباشر، فيما اهترأت أخرى بسبب حرارة الصيف ورياح الشتاء، لتتحول إلى أقمشة ممزقة لا تصلح لإيواء البشر.
منع المساعدات… خرق للاتفاق وتكريس للمأساة
رغم دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، فإن الواقع الإنساني في قطاع غزة لم يشهد أي تحسّن يُذكر، بل على العكس، فاستمرار القيود الإسرائيلية المشددة على دخول شاحنات المساعدات فاقم معاناة النازحين مع حلول الشتاء. فالاتفاق تضمّن بروتوكولًا إنسانيًا واضحًا يسمح بإدخال المواد الإغاثية العاجلة، وعلى رأسها الخيام البديلة، البطانيات، وسائل التدفئة، والوقود، إلا أن هذه الالتزامات بقيت حبرًا على ورق. منع أو تقليص المساعدات حوّل الخيام الممزقة إلى مصائد موت، وترك آلاف العائلات تواجه البرد القارس بلا غطاء أو وقاية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، الذي يوجب حماية المدنيين، خصوصًا في أوقات النزاعات والكوارث.
14 وفاة بسبب البرد، أرقام تكشف حجم الكارثة
في ظل هذا الواقع، لم تعد التحذيرات الصحية مجرد توقعات، بل تحولت إلى أرقام صادمة. فقد سُجّلت 14 حالة وفاة في قطاع غزة بسبب البرد القارس، من بينهم ثلاثة أطفال، وفق معطيات طبية محلية. هذه الوفيات جاءت نتيجة انخفاض شديد في حرارة الجسم داخل خيام غمرتها مياه الأمطار، وانعدام وسائل التدفئة، إلى جانب سوء التغذية وضعف المناعة. هذه الأرقام لا تمثل سوى الجزء الظاهر من الكارثة، إذ يحذر الأطباء من أن استمرار منع المساعدات وغياب التدخل العاجل ينذر بارتفاع عدد الضحايا، خاصة بين الرضع وكبار السن والمرضى المزمنين، ليصبح البرد أحد وجوه الموت الصامت الذي يفتك بسكان غزة بعد أن نجوا من القصف
حصار مستمر رغم وقف إطلاق النار
ورغم سريان وقف إطلاق النار في أكتوبر الماضي، لم يلمس سكان غزة تحسنًا حقيقيًا في ظروفهم المعيشية. فالقيود الإسرائيلية المشددة على دخول شاحنات المساعدات لا تزال قائمة، في انتهاك واضح للبروتوكول الإنساني، ما يحرم النازحين من البطانيات ووسائل التدفئة والمواد الأساسية اللازمة لمواجهة الشتاء.
البرد كجزء من معادلة الإبادة
كما وصفه منير البرش، لم يعد البرد في غزة مجرد حالة جوية، بل عاملًا إضافيًا في معادلة الموت اليومي. فالنازحون يعيشون بين القصف والجوع والمرض والبرد، في وقت يقف فيه العالم متفرجًا بصمت يوصف بأنه شريك في المأساة. إن معاناة الخيام الغارقة ليست كارثة طبيعية، بل نتيجة مباشرة لسياسات الحصار والتجويع والتدمير.
صمت العالم وامتحان الإنسانية
مأساة النازحين في خيام غزة تطرح سؤالًا أخلاقيًا ملحًا حول معنى الإنسانية في عالم يرى الأطفال يموتون بردًا ولا يتحرك. مطالب الغزيين لا تتجاوز الحق في مأوى يحميهم من المطر والبرد، لكن حتى هذا الحق البسيط يبدو بعيد المنال. ومع كل شتاء جديد، يستمر الامتحان الأخلاقي للعالم، بينما يدفع أطفال غزة ثمن الفشل والصمت.
