الوقت- في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وما يرافقه من تصعيد عسكري متواصل منذ أكتوبر 2023، تتوالى التقارير والتسريبات التي تكشف عن حجم المأزق الذي يعيشه جيش الاحتلال الإسرائيلي، سواء على الصعيد البشري أو الميداني أو المعنوي، فبعد أن حاولت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في الأشهر الماضية إظهار صورة القوة التي لا تهزم والجيش الذي يملك الجهوزية الكاملة لمواجهة أي تحدٍ، جاءت التصريحات الأخيرة التي نقلتها وسائل إعلام عبرية لتنسف هذه الرواية وتكشف هشاشة البنية القتالية للاحتلال، إذ أكد مصدر رفيع في الجيش الإسرائيلي أن معظم القوات التي تخوض المعارك في غزة ليست من الوحدات النظامية الثابتة بل من قوات الاحتياط، في إشارة واضحة إلى أن الكيان يعيش أزمة غير مسبوقة في إدارة موارده البشرية وقدرته على الاستمرار في حرب طويلة الأمد.
التقارير العبرية تحدثت عن أن الجيش يمتلك واحداً وعشرين لواءً عسكرياً مؤهلاً لتنفيذ عمليات توغل بري، إلا أن ستة ألوية فقط تُعد من القوات النظامية الدائمة، فيما البقية جميعها من قوات الاحتياط، هذه الحقيقة تحمل دلالات عميقة لا يمكن تجاهلها، فهي تشير إلى أن الكيان الذي طالما تفاخر بتفوقه العسكري يعيش اليوم على وقع أزمة داخلية تعصف بمؤسسته العسكرية.
الاعتماد المفرط على الاحتياط يعني أن الجيش فقد جزءاً كبيراً من جاهزيته الطبيعية، وأنه لم يعد قادراً على إدارة المعركة من خلال قواته النظامية وحدها، ويؤكد هذا الواقع حجم الاستنزاف الذي يعانيه الاحتلال بعد أشهر طويلة من الحرب، حيث تآكلت وحداته الميدانية واضطر قادته إلى استدعاء عشرات الآلاف من المدنيين الاحتياطيين لملء الفراغ وسد العجز.
المعطيات المتوافرة تكشف أن نحو ستين ألفاً من جنود الاحتياط جرى استدعاؤهم في أغسطس 2025 استعداداً لعملية واسعة في مدينة غزة، إضافة إلى توقعات بارتفاع العدد إلى مئة وثلاثين ألفاً في لحظة الذروة، هذه الأرقام الضخمة تكشف أن الجيش لم يعد قادراً على خوض الحرب دون الاعتماد الكلي على المدنيين الذين تركوا أعمالهم وحياتهم الخاصة ليجدوا أنفسهم فجأة في أتون معركة دامية لم يختاروها، المشكلة الأكبر أن هؤلاء الجنود لا يمتلكون بالضرورة الكفاءة أو الجهوزية نفسها التي تتمتع بها الوحدات النظامية، ما يجعل العمليات العسكرية عرضة للأخطاء والتعثر والتراجع عند مواجهة المقاومة الفلسطينية التي أثبتت قدرة عالية على المناورة والصمود وإلحاق الخسائر الفادحة بالاحتلال.
إضافة إلى ذلك، فإن تقارير إسرائيلية أشارت إلى تراجع نسبة الحضور استجابةً لأوامر الاستدعاء، حيث امتنع العديد من الجنود الاحتياطيين عن الانضمام لأسباب عائلية أو مهنية أو حتى احتجاجاً على السياسات الحكومية، هذا التململ يعكس بوضوح أزمة الثقة بين المجتمع الإسرائيلي وقيادته السياسية والعسكرية، ويكشف أن الرواية الرسمية التي حاولت تصوير الحرب كمعركة وجودية توحّد الإسرائيليين خلفها لم تعد مقنعة، بل على العكس، يزداد الاستياء في صفوف الجنود الاحتياطيين وعائلاتهم الذين يرون في هذه الحرب عبئاً لا يطاق يستنزف حياتهم ومصادر رزقهم ويضعهم في مواجهة خطر الموت دون طائل.
المقاومة الفلسطينية من جانبها تتابع هذه التطورات بدقة وتدرك حجم الأزمة التي تعصف بجيش الاحتلال، وهو ما يمنحها مساحة أوسع للمناورة وإطالة أمد المواجهة بما يؤدي إلى استنزاف أكبر للعدو، فكلما طال أمد الحرب، ازداد الضغط على قوات الاحتياط التي تفتقر إلى الحافزية والانضباط والتدريب المتواصل، ما يضاعف من احتمالات الانهيار المعنوي وتراجع الجهوزية في الميدان، الكيان الإسرائيلي الذي بنى صورته على أنه الجيش الأقوى في المنطقة يجد نفسه اليوم يعتمد على مدنيين منهكين ومتذمرين، فيما وحداته النظامية تترنح تحت ضربات المقاومة المتواصلة.
البعد السياسي لهذه الأزمة لا يقل خطورة عن البعد العسكري، فاعتماد الاحتلال على قوات الاحتياط بهذا الحجم يفتح الباب أمام انقسامات داخلية حول جدوى الحرب وتكلفتها، فهناك قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي باتت تتساءل عن السبب الحقيقي الذي يدفع الحكومة لمواصلة حرب طويلة ومكلفة لا أفق لها، في حين تتزايد أعداد القتلى والجرحى وتتصاعد الضغوط الاقتصادية على العائلات، من جهة أخرى، فإن بروز حقيقة أن معظم القوات في غزة ليست نظامية يُضعف صورة الردع التي حاولت حكومة نتنياهو تسويقها أمام العالم، ويعطي انطباعاً بأن الجيش الإسرائيلي يعيش أزمة حقيقية في موارده البشرية والتنظيمية.
من الناحية الميدانية، يواجه الاحتلال تحديات متزايدة في تأمين المعدات والتجهيزات لعشرات الآلاف من الاحتياطيين الذين زُجّ بهم في المعركة، ما يعني أعباءً لوجستية هائلة تضاف إلى الأعباء السياسية والاجتماعية، وكلما طال أمد المعركة، زادت صعوبة الحفاظ على خطوط الإمداد والدعم، وهو ما قد ينعكس مباشرة على قدرة الاحتلال على التقدم أو تحقيق أي إنجاز استراتيجي، والأهم من ذلك أن المقاومة الفلسطينية استطاعت حتى الآن أن تفرض معادلة استنزاف طويلة المدى، تجعل الاحتلال يدفع أثماناً باهظة مقابل كل خطوة يحاول أن يخطوها على الأرض.
هذه المعطيات جميعها تؤكد أن جيش الاحتلال الإسرائيلي ليس في أفضل حالاته كما تحاول دعايته الرسمية أن تُظهر، بل يعيش مأزقاً وجودياً يعكس أزمة عميقة في بنيته العسكرية والمجتمعية، الاعتماد شبه الكامل على قوات الاحتياط ليس مؤشراً على المرونة أو القوة، بل دليل ضعف يكشف حجم التآكل الذي أصاب المؤسسة العسكرية، وإذا استمر الوضع على هذا النحو، فإن قدرة الاحتلال على الاستمرار في حرب طويلة ستصبح موضع شك حقيقي، وخاصة مع تصاعد الضغوط الداخلية وتزايد أصوات الرافضين لمواصلة حرب لا تبدو لها نهاية قريبة.
إن صورة الجيش الذي كان يُقدَّم باعتباره "لا يُقهر" تتهاوى اليوم تحت ضغط الحقائق الميدانية، فبينما يحاول قادته طمأنة المجتمع الإسرائيلي والظهور بمظهر المسيطر، تأتي الوقائع لتؤكد أن الاعتماد على قوات الاحتياط بهذا الحجم ليس سوى اعتراف ضمني بالعجز والفشل، وكلما طال أمد الحرب، كلما تكشّفت نقاط الضعف أكثر، وكلما ارتفع صوت التساؤلات في الداخل الإسرائيلي حول جدوى الاستمرار في مغامرة عسكرية خاسرة، ومن المؤكد أن المقاومة الفلسطينية التي تدرك طبيعة هذا الضعف ستواصل استنزاف العدو، في معركة أصبحت بوضوح معركة إرادات، حيث يمتلك الفلسطينيون ما يكفي من العزيمة والصمود لإفشال مخططات الاحتلال مهما طال الزمن.