الوقت- شهدت محافظة السويداء جنوب سوريا خلال الأسابيع الأخيرة واحدة من أكثر الحوادث دموية منذ اندلاع الاشتباكات بين قوات حكومة الجولاني والمجموعات المسلحة المحلية.
الحادثة التي وقعت داخل المستشفى الوطني في مدينة السويداء، لم تكن مجرد اشتباك مسلح، بل جريمة إعدام ميداني موثقة بالصوت والصورة، أثارت موجة غضب واستنكار واسع، وأعادت إلى الأذهان ذاكرة السوريين عن جرائم مماثلة ارتكبتها فصائل مسلحة في مناطق أخرى، وعلى رأسها جرائم عصابات أبو محمد الجولاني في الساحل السوري.
تفاصيل الحادثة: من داخل المستشفى إلى الإعدام العلني
في مساء يوم الأحد، نشر "المرصد السوري لحقوق الإنسان" تسجيلاً مصورًا يظهر مجموعة من المسلحين التابعين لوزارة الدفاع في حكومة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، وهم يقتادون رجلًا من داخل المستشفى الوطني في السويداء. الفيديو يوثق لحظة جرّه من غرفة العلاج إلى خارج المبنى، وسط ذهول العشرات من الكوادر الطبية الذين أجبروا على الجلوس على الأرض ومشاهدة ما يجري.
حسب شهود عيان، تعرض الضحية للضرب المبرح قبل أن يتم إطلاق النار عليه بشكل مباشر، ما أدى إلى مقتله على الفور، وجثته نُقلت بعد ذلك إلى مكان مجهول، وسط تعتيم إعلامي ومحاولات واضحة لإخفاء تفاصيل الجريمة.
قمع الكوادر الطبية وتصفية الشهود
المؤلم في الحادثة أن بعض التقارير المحلية تحدثت عن مقتل عدد إضافي من كوادر المستشفى لاحقًا، بهدف القضاء على الشهود ومنع تسريب أي معلومات، وحسب المصادر، فإن كاميرات المراقبة تم تدميرها عمدًا، وتمت إزالة بطاقات الذاكرة الخاصة بها، ومع ذلك، تمكن بعض الموظفين من حفظ نسخة احتياطية من التسجيلات في مكان آمن، وهي التي وصلت لاحقًا إلى المرصد الحقوقي.
هذه الجريمة تمثل خرقًا صارخًا للقوانين الدولية التي تحمي المنشآت الطبية في أوقات النزاع، وتؤكد استمرار نمط الانتهاكات الممنهجة ضد القطاع الصحي في سوريا.
خلفية الصراع في السويداء
منذ أشهر، تعيش السويداء حالة من التوتر الأمني على خلفية تصاعد الاحتجاجات الشعبية والمواجهات بين الدروز المحليين والقوات التابعة للحكومة، تفجّرت الأوضاع في يوليو/تموز الماضي عندما اندلعت اشتباكات عنيفة في أحياء المدينة، أسفرت عن مقتل العشرات من الطرفين، وامتدت إلى محيط القرى المجاورة.
وحسب المرصد السوري، فقد تم توثيق 401 حالة إعدام ميداني في السويداء منذ بداية الصراع، معظمها نفذت على يد تشكيلات أمنية استوعبت مقاتلين سابقين من جماعات متشددة، بينهم عناصر سابقون في "هيئة تحرير الشام" التي يقودها أبو محمد الجولاني.
إدماج المقاتلين المتشددين في الأجهزة الرسمية
واحدة من النقاط الجوهرية التي فجّرت موجة الانتقادات ضد الحكومة الحالية، هي سياسة دمج المقاتلين السابقين من التنظيمات المتطرفة في مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، بعد سقوط نظام بشار الأسد، تم استيعاب مئات المقاتلين من "جبهة النصرة" و"هيئة تحرير الشام" في وزارتي الدفاع والداخلية، الأمر الذي نقل ممارساتهم العنيفة وأساليبهم الميدانية إلى مؤسسات يفترض أنها تمثل الدولة والقانون.
هذا الدمج، كما يرى محللون، خلق بيئة خصبة لاستمرار الانتهاكات، حيث تحوّل السلوك المسلح إلى نمط مؤسسي، وأصبح من الصعب مساءلة المتورطين أو محاسبتهم.
صدى الحادثة في الشارع السوري
أثارت الجريمة موجة غضب عارمة بين سكان السويداء، الذين نظموا وقفات احتجاجية أمام مباني رسمية مطالبين بالكشف عن ملابسات الحادثة ومحاسبة الفاعلين، كما عبّرت منظمات حقوقية سورية ودولية عن إدانتها، مؤكدة أن استهداف الكوادر الطبية والمرضى يشكل جريمة حرب وفق اتفاقيات جنيف.
على وسائل التواصل الاجتماعي، تداول ناشطون وسم #مجزرة_المستشفى_الوطني، مرفقًا بمقاطع الفيديو المسربة، وسط مطالبات بإرسال لجنة تحقيق دولية إلى المحافظة.
جرائم الجولاني في الساحل: ذاكرة الدم التي لم تندمل
حادثة السويداء أعادت إلى الأذهان سلسلة الجرائم التي ارتكبتها فصائل متشددة بقيادة أبو محمد الجولاني في الساحل السوري قبل سنوات، وخاصة في ريف اللاذقية، ففي صيف عام 2013، شنّت مجموعات تابعة لـ"جبهة النصرة" هجومًا واسعًا على قرى علوية في جبال اللاذقية، ما أسفر عن مقتل مئات المدنيين، بينهم نساء وأطفال، وارتكاب عمليات إعدام جماعية وخطف.
وحسب تقارير منظمات حقوقية، تم توثيق عمليات ذبح ميداني وحرق منازل ونهب ممتلكات، في مشاهد وثّقتها كاميرات المقاتلين أنفسهم ونشروها للتباهي بما وصفوه بـ"الغزوة". هذه الجرائم، التي صنّفت لاحقًا كجرائم ضد الإنسانية، لم تُحاسب حتى اليوم، بل إن بعض منفذيها اندمجوا لاحقًا في أجهزة أمنية رسمية بعد إعادة تشكيل الدولة.
تشابه الأنماط بين الساحل والسويداء
المقارنة بين أحداث الساحل السوري وحادثة المستشفى في السويداء تكشف عن قاسم مشترك واضح: الممارسات العنيفة نفسها، والأسلوب الميداني ذاته، والغياب الكامل للمحاسبة، في كلا الحالتين، استُهدف المدنيون بشكل مباشر، وتم تنفيذ عمليات قتل خارج نطاق القانون، مع انتهاك صارخ لحرمة المستشفيات والمنازل.
المحللون يرون أن هذا التشابه ليس صدفة، بل هو نتيجة مباشرة لسياسة دمج المقاتلين السابقين في مؤسسات الدولة، دون أي عملية إعادة تأهيل أو مساءلة، ما جعلهم يواصلون نفس السلوكيات لكن تحت غطاء رسمي.
مخاوف من تصعيد أكبر في الجنوب
تخشى أوساط محلية ودولية من أن تكون حادثة المستشفى مقدمة لموجة أعنف من التصعيد في السويداء، وخاصة في ظل استمرار الاحتقان الطائفي والسياسي. بعض التقارير تتحدث عن استعداد مجموعات درزية مسلحة لشن هجمات مضادة على مواقع القوات الحكومية، ردًا على ما يعتبرونه "إهانة لكرامة المجتمع الدرزي".
منظمات الإغاثة الإنسانية حذرت من أن أي تصعيد جديد قد يعرض آلاف المدنيين للخطر، وخاصة مع اقتراب فصل الشتاء وتدهور الوضع المعيشي في المحافظة.
حادثة المستشفى الوطني في السويداء ليست مجرد جريمة فردية، بل هي مؤشر خطير على المسار الذي تسلكه سوريا في مرحلة ما بعد الصراع، دمج المقاتلين المتشددين في مؤسسات الدولة، واستمرار الإفلات من العقاب، يشكلان وصفة جاهزة لتكرار المآسي، ليس فقط في السويداء، بل في أي منطقة سورية أخرى.
الذاكرة الدامية للساحل السوري، والحاضر المأساوي في السويداء، يضعان المجتمع السوري أمام سؤال ملح: هل يمكن بناء دولة القانون والعدالة في ظل غياب المساءلة، أم أن دوامة العنف ستظل تدور بلا نهاية؟ وخاصة مع حكومة تمارس الإرهاب في الظل وترتدي البدلات في العلن.
