الوقت – وقّعت أرمينيا وجمهورية أذربيجان بيانًا في البيت الأبيض يوم الجمعة، بوساطة أمريكية. أعلن البيت الأبيض أن الاتفاقية وُقّعت لحل النزاع طويل الأمد حول ممر زنغزور. ومع ذلك، يبدو أن الاتفاقية الموقّعة بين أرمينيا وأذربيجان هي أقرب إلى اتفاقية بين جارتين بينهما خلافات تاريخية عميقة، أكثر منها خطوة لفتح بصمة أمريكية جديدة في المنطقة، على الرغم من أن الاتفاقية تشوبها العديد من التعقيدات. في هذا التقرير، سنلقي نظرة على هذه الاتفاقية وآثارها الجيوسياسية في المنطقة.
تفاصيل الاتفاقية
وفقًا للبيان المشترك للدول الثلاث، أرمينيا وأذربيجان والولايات المتحدة، والذي نشرته أيضًا مجلة فورين بوليسي، يتضمن البيان ما يلي:
-اتفقت الدول الثلاث على بناء ممر عبور يربط أراضي جمهورية أذربيجان بجمهورية نخجوان المتمتعة بالحكم الذاتي، مرورًا بمقاطعة سينويجو، أقصى جنوب أرمينيا.
-يحق لواشنطن استئجار ممر العبور.
-تم تغيير اسم المسار إلى "ممر ترامب للسلام والازدهار الدوليين"، واختصارًا TRIPP.
-سيُنفذ المشروع تحت الولاية القانونية للحكومة الأرمينية.
-ستُمنح أرض مسار العبور، الذي يبلغ طوله 43 كيلومترًا، للحكومة الأمريكية بموجب عقد إيجار لمدة 99 عامًا.
-ستؤجر الحكومة الأمريكية مسار العبور الخاضع لسيطرتها لشركة أمريكية خاصة للإشراف على الإنشاء والإدارة.
نزاع طويل الأمد
تخوض أرمينيا وأذربيجان حربًا ضروسًا منذ سنوات على إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه. وقد أسفر هذا الصراع عن مقتل الآلاف من كلا الجانبين ونزوح أكثر من 100 ألف شخص. في عام 2020، توسط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوقف إطلاق النار بين الجانبين، لكن المحادثات لم تدم طويلًا، حيث شنت أذربيجان هجومًا خاطفًا في عام 2023 للسيطرة الكاملة على إقليم أرتساخ الأرمني المنفصل، مسيطرةً بذلك على كاراباخ بالكامل.
كانت منطقة ناغورنو كاراباخ جزءًا من أذربيجان بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، واحتلها الجيش الأرمني آنذاك، لكن أذربيجان تمكنت من استعادة المنطقة في عام 2023.
في أوائل عام 2025، توصلت يريفان وباكو إلى اتفاق بشأن نص اتفاقية السلام، لكن ظل هناك خلاف رئيسي واحد: قلق أرمينيا من طلب أذربيجان بناء طريق يؤدي إلى جمهورية نخجوان المتمتعة بالحكم الذاتي. طلبٌ لم توافق عليه أرمينيا، لكن أذربيجان أصرت على تنفيذه.
الاتفاق الأخير بين أرمينيا وأذربيجان في البيت الأبيض شدد على إنشاء الطريق نفسه تحت إشراف أمريكي، مما يسمح بـ"تواصلٍ حرّ" بين أذربيجان ونخجوان، مع أن السيطرة على الطريق لن تكون بيد أذربيجان أو أرمينيا، بل بيد الولايات المتحدة التي تدخلت مباشرةً
اتفاقية أم معاهدة؟ غموضٌ حول حل النزاعات
ما وُقّع في البيت الأبيض ليس معاهدة سلام، بل اتفاقية سلام بين أذربيجان وأرمينيا. ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز، من المقرر أن تدخل المفاوضات بين أذربيجان وأرمينيا في تفاصيلها خلال الأسابيع المقبلة.
لا تزال هناك العديد من العقبات المحتملة أمام إتمام الاتفاقية وتحويلها إلى معاهدة سلام كاملة، وأبرزها:
غموض الحدود: وفقًا لصحيفة واشنطن بوست، لا يحل اتفاق البيت الأبيض الأخير المطالبات المتنافسة للبلدين بالسيادة على أراضٍ رئيسية، ولا يحدد الحدود بينهما، كما لا يتناول مطالبات حقوق الإنسان العالقة منذ ضم أذربيجان لإقليم ناغورنو كاراباخ عام 2023.
النزاع الدستوري الأرمني: تُصر أذربيجان على ضرورة تعديل أرمينيا لدستورها لإلغاء أي مطالبات إقليمية بكاراباخ. ومع ذلك، لا يذكر الدستور الأرمني ناغورنو كاراباخ مباشرةً، بل يشير في ديباجته إلى إعلان الاستقلال الأرمني، الذي ينص على "إعادة توحيد" كاراباخ مع أرمينيا. الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف أكد مرارًا أن السلام غير ممكن دون تعديل هذه الديباجة، ولا يزال الخلاف قائمًا.
النزاع حول السجناء ومطالبات حقوق الإنسان: أرمينيا تطالب بإطلاق سراح السجناء الأرمن وضمان عودة نحو 150 ألف أرمني طُردوا خلال حرب كاراباخ. لم يتطرق اتفاق البيت الأبيض لهذه القضية، كما أن الدعاوى المرفوعة من الجانبين أمام محكمة العدل الدولية لا يزال مصيرها مجهولًا.
المعارضة المحلية والخارجية في أرمينيا: إنشاء "ممر ترامب" قد يواجه رفضًا شعبيًا، إضافة إلى اعتراضات إيرانية قوية، نظرًا لتأجير جزء من الأراضي الأرمينية لدولة أجنبية.
تجارب سابقة فاشلة: التاريخ الحديث للقوقاز مليء بمبادرات سلام تعثرت، مثل عملية السلام في كي ويست عام 2001، وبروتوكولات التطبيع بين أرمينيا وتركيا عام 2009، واتفاقية مينسك الفاشلة.
الآثار الجيوسياسية لـ"ممر ترامب"
إيران
إيران ستكون حدودًا مباشرة للممر، وهو ما قد يتيح للولايات المتحدة إقامة منشآت مراقبة واستخبارات قرب حدودها الشمالية. كما قد يتسبب الممر في تعطيل التجارة الإيرانية مع أرمينيا، التي تُعد منفذًا حيويًا لها نحو روسيا.
إضافة إلى ذلك، سيؤثر الممر على مقايضات النفط بين إيران وأذربيجان، إذ لن تعود إيران قادرة على الحصول على النفط الأذربيجاني عبر حدودها الشمالية وتزويد عملاء أذربيجان بكميات مكافئة من إنتاجها في الخليج الفارسي، ما يقلص عائداتها من النقد الأجنبي ويزيد تكاليف نقل النفط إلى مصفاة تبريز.
بشكل عام، يرى خبراء إيرانيون أن الممر سيؤدي إلى تقليص نفوذ طهران في القوقاز، وقطع طريقها البري نحو تركيا وآسيا الوسطى، وتعزيز وجود الناتو شمال إيران.
روسيا
التدخل الأمريكي المباشر في النزاع يقلص نفوذ موسكو في القوقاز، خاصة أن روسيا كانت الوسيط الرئيسي في اتفاق وقف إطلاق النار عام 2020. مع انشغالها بحرب أوكرانيا وفشل قواتها في منع أذربيجان من السيطرة على كاراباخ عام 2023، فقدت روسيا الكثير من مصداقيتها كقوة ضامنة في المنطقة.
الولايات المتحدة
الولايات المتحدة تسعى لترسيخ حضورها الاستراتيجي في القوقاز، وتعزيز شبكات التجارة بين أوروبا وآسيا الوسطى. سياسيًا، قد يسعى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لاستثمار هذا الاتفاق في تعزيز صورته الدولية وربما الترشح لنيل جائزة نوبل للسلام.
الصين
رغم أن بكين ليست لاعبًا رئيسيًا في القوقاز، فإن المنطقة تشكل جزءًا من طريقها البري نحو أوروبا. سيطرة الولايات المتحدة على ممر زنغزور تمثل تهديدًا غير مباشر للمصالح الصينية في هذا المسار التجاري.