الوقت- منذ بداية العدوان الصهيوني الجديد على قطاع غزة، عاد الحديث عن محاولة إعادة احتلال أجزاء من القطاع إلى الواجهة، في تصعيد خطير يكشف عن مأزق استراتيجي وأخلاقي يعيشه الكيان الصهيوني، التصريحات الصادرة عن قادة الجيش الصهيوني بشأن "بدء احتلال أجزاء من غزة" تندرج ضمن سياسة الهروب إلى الأمام، في محاولة يائسة لاستعادة زمام المبادرة في معركة فقد فيها الكثير من الردع والمصداقية.
ومع تعمّق الأزمات الداخلية في "إسرائيل"، وتدهور معنويات الجيش، وارتفاع أعداد الرافضين للخدمة من قوات الاحتياط، تبدو عودة الاحتلال إلى غزة خيارًا غير مدروس ستكون له عواقب وخيمة، وفي الوقت الذي يظن فيه نتنياهو أن التصعيد سيمنحه مهربًا سياسيًا من أزماته، يرى المراقبون أن هذا القرار سيكون بمثابة مصيبة استراتيجية للكيان، وفرصة نادرة للمقاومة الفلسطينية لإلحاق المزيد من الخسائر الفادحة في صفوف جيش الاحتلال.
الفشل الاستخباراتي والعسكري... بداية الانحدار
من أبرز ملامح المرحلة الحالية، فشل الكيان الصهيوني في قراءة واقع غزة السياسي والعسكري بشكل دقيق، كان يُفترض أن سنوات الحصار والاستخبارات والطائرات المسيّرة تمنح "إسرائيل" تفوقًا تكتيكيًا، لكن ما حدث هو العكس تمامًا، العمليات النوعية التي نفذتها المقاومة منذ الـ 7 من أكتوبر كشفت ضعفًا استخباراتيًا كبيرًا، وعجزًا في الرصد المسبق لأي تحرك استراتيجي، هذا الفشل لا يرتبط فقط بالمقاومة، بل يمتد أيضًا إلى سوء تقدير لمعنويات الجيش الصهيوني، حيث اتضح أن جزءًا كبيرًا من القوات يعاني من تردد وإرباك ميدانيين.
التهديد بـ"إعادة احتلال غزة" يأتي في ظل هذا الضعف، ما يجعل من الخطوة مقامرة عسكرية بكل المقاييس، فبدلًا من تقوية الجبهة الداخلية، يؤدي هذا القرار إلى استنزاف المزيد من الموارد والقوات، وتفاقم الخلافات السياسية داخل الحكومة الصهيونية، المقاومة الفلسطينية تدرك تمامًا أن العدو يدخل إلى أراضٍ ضيقة ومكتظة ومحفوفة بالمفاجآت، وهي البيئة المثلى لحرب العصابات التي تبرع فيها كتائب القسام وسرايا القدس، لذا، فإن أي تقدم صهيوني سيُقابل بخسائر مضاعفة، وهذا ما لا تحتمله "إسرائيل" سياسيًا ولا نفسيًا.
الجيش الصهيوني بين أزمة الثقة والتفكك الداخلي
الجيش الصهيوني الذي طالما روّج له كـ"أقوى جيوش المنطقة"، بات اليوم في مرمى التشكيك من داخل "إسرائيل" نفسها، الإحصائيات تفيد بأن ما يقارب 50٪ من جنود الاحتياط يرفضون العودة للقتال، في مؤشر خطير على اهتزاز الثقة بالقيادة العسكرية والسياسية، هذا التراجع في الروح المعنوية لا يعود فقط إلى طول أمد الحرب، بل إلى غياب الأفق والوضوح في الأهداف.
الجنود أنفسهم يجهلون لماذا تستمر الحرب، والمستوطنون الصهاينة باتوا يرون في ما يجري تصفية حسابات شخصية من طرف نتنياهو للبقاء سياسيًا، وفي ظل هذا الانقسام، فإن إرسال قوات برية إلى غزة هو قرار انتحاري أكثر منه عسكري، الجنود الذين يدخلون القطاع سيدخلون في مواجهة مباشرة مع مقاتلين مؤهلين نفسيًا، عقائديًا، ويقاتلون على أرضهم.
المقاومة ترى في هذا التوجه فرصة استراتيجية لتوجيه ضربات مباشرة ومدمرة للقوات المتقدمة، وتحقيق انتصارات نفسية وميدانية على الأرض، وهو ما قد يُحوّل غزة من "أزمة أمنية" إلى مستنقع دموي للكيان لا يستطيع الخروج منه.
البعد السياسي... نتنياهو يحارب من أجل نجاته الشخصية
لا يمكن قراءة التصعيد في غزة بمعزل عن الوضع السياسي الداخلي في الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو، المحاصر بالاتهامات والفضائح، يرى في الحرب وسيلة للبقاء في الحكم، حتى ولو كان الثمن دماء جنوده ومواطنيه، الشعب الصهيوني نفسه بات يدرك أن الحرب لا تُخاض من أجل "تحقيق الأمن"، بل لحماية مستقبل نتنياهو السياسي، وهذا ما يفسر الغضب الشعبي والتظاهرات المستمرة للمطالبة بوقف الحرب وإعادة الأسرى من غزة.
المشكلة أن خضوع القرار العسكري للحسابات السياسية يجعل من الجيش أداة غير مستقلة، ويؤدي إلى أخطاء كارثية في التخطيط والتنفيذ، كل يوم يمر دون إنجاز عسكري ملموس، يزيد من إحراج الجيش ويضعف صورة "إسرائيل" دوليًا، وفي حال تنفيذ عملية برية واسعة، فإن المقاومة ستسعى لتحويلها إلى نقطة تحوّل عسكرية وسياسية، بمعنى آخر، سيحارب الجنود دون غطاء شعبي حقيقي، وستكون الخسائر مضاعفة، ليس فقط في الأرواح، بل في شرعية الحكومة برمتها.
المقاومة... من الدفاع إلى الهجوم النوعي
المقاومة الفلسطينية اليوم ليست كما كانت في السابق، إنها تقاتل بعقيدة، بخبرة، وبقدرات تراكمت على مدى سنوات من الحصار والمعارك، كتائب القسام وسائر فصائل المقاومة طوّرت من أسلحتها، تكتيكاتها، ونظام أنفاقها، بما يجعلها قادرة على خوض حرب استنزاف طويلة الأمد، ومع بدء الاحتلال البري لأجزاء من غزة، تتحول المقاومة من موقع الدفاع إلى الهجوم النوعي المباشر، مستفيدة من الطبيعة الجغرافية المعقدة للقطاع ومن البيئة الشعبية الداعمة، هذه ليست حربًا مفتوحة فحسب، بل صراع وجودي يُخاض على كل شبر من الأرض، وكل جندي صهيوني يدخل غزة هو هدف مباشر، وكل دبابة تتوغل هي فريسة محتملة، وعليه، فإن هذا الاحتلال الجزئي لن يكون نزهة، بل فرصة ذهبية للمقاومة لقتل المزيد من جنود الاحتلال، وإلحاق هزيمة نفسية وعسكرية تعيد خلط الأوراق، التجربة تقول إن المعارك الكبرى في غزة لم تنتهِ أبدًا بانتصار صهيوني، بل بكوابيس سياسية وميدانية دفعت الاحتلال إلى التراجع، واليوم، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، ولكن بثمن أكبر على الكيان.
في الختام، إعادة احتلال غزة ليست عملية عسكرية عادية، بل مقامرة خاسرة تعكس التخبط العميق الذي يعيشه الكيان الصهيوني، إنها وصفة لانهيار الروح المعنوية لجيشه، وتفكك جبهته الداخلية، وتعميق العزلة الدولية التي تحاصره، في المقابل، تمثّل هذه الخطوة فرصة نادرة للمقاومة لتوسيع بنك أهدافها، وقتل أكبر عدد ممكن من جنود الاحتلال، في مواجهة مصيرية ستُسجّل في تاريخ الصراع كواحدة من أكبر كوابيس الكيان الصهيوني. في غزة، لا مكان للاحتلال إلا في فوهة البندقية.