الوقت- في مشهد يعيد إلى الأذهان أقسى فصول المعاناة الإنسانية، تعيش آلاف العائلات الفلسطينية النازحة في قطاع غزة كارثة مركّبة مع حلول فصل الشتاء واشتداد العواصف المطرية والبرد القارس، حيث تحوّلت المخيمات المؤقتة إلى بحيرات من الماء والطين، وبات شبح الموت بردًا يطارد الأطفال والمرضى وكبار السن، وفي ظل هذا الواقع المأساوي، حمّلت الحكومة في غزة الكيان الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن فاجعة إنسانية كبرى يعيشها النازحون نتيجة الحصار ومنع إدخال مستلزمات الإيواء والإغاثة.
وأعلن المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة عن استشهاد 11 فلسطينيًا جراء انهيار مبانٍ سكنية خلال عاصفة قطبية شديدة ضربت القطاع منذ يوم الخميس، في وقت لا تزال فيه فرق الدفاع المدني تواصل عمليات البحث عن مفقودين تحت الأنقاض وسط ظروف مناخية بالغة الصعوبة ونقص حاد في الإمكانيات.
عاصفة قطبية تضرب أكثر من ربع مليون نازح
وقال الدكتور إسماعيل الثوابته، المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، خلال مؤتمر صحفي عقده أمام مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح وسط القطاع، إن العاصفة القطبية التي تضرب غزة منذ أيام تسببت بتضرر أكثر من 250 ألف نازح من أصل نحو مليون ونصف مليون نازح يعيشون في خيام وملاجئ مؤقتة تفتقر إلى أبسط مقومات الحماية من البرد والأمطار.
وأوضح الثوابته أن فرق الدفاع المدني انتشلت جثامين 11 شهيدًا من تحت أنقاض ما لا يقل عن 13 مبنى انهارت كليًا نتيجة شدة الرياح وغزارة الأمطار، مشيرًا إلى أن أعمال البحث والإنقاذ لا تزال مستمرة للعثور على شخص مفقود، فيما لا تتوفر حتى الآن حصيلة نهائية لعدد الشهداء بسبب استمرار الانهيارات وصعوبة الوصول إلى بعض المناطق.
خسائر مادية فادحة وبنية تحتية منهارة
وبيّن الثوابته أن التقديرات الأولية تشير إلى أن الخسائر المادية المباشرة الناجمة عن العاصفة تبلغ نحو 4 ملايين دولار، مؤكدًا أن الخيام كانت الأكثر تضررًا، حيث تضررت أو غمرت المياه نحو 53 ألف خيمة بشكل جزئي أو كلي، كما لحقت أضرار جسيمة بالأغطية البلاستيكية والبرشات التي شُيّدت منها الخيام، إضافة إلى تلف الأثاث البسيط والمواد الغذائية والأدوات الأساسية التي يعتمد عليها النازحون في حياتهم اليومية.
وأضاف إن العاصفة تسببت أيضًا بأضرار كبيرة في البنية التحتية الهشة أصلًا، حيث أدت السيول إلى تآكل وتدمير مئات الطرق الترابية والمسارات المؤقتة التي يستخدمها السكان والنازحون للتنقل بين المخيمات والمناطق المختلفة في القطاع، ما زاد من عزلة بعض التجمعات وصعوبة وصول فرق الإغاثة إليها.
أزمة صحية متفاقمة ومخاطر وبائية
وحذّر مدير المكتب الإعلامي الحكومي من تفاقم الأوضاع الصحية نتيجة اختلاط مياه الأمطار بمياه الصرف الصحي، في ظل انهيار شبكات الصرف المؤقتة وامتلاء الحفر الصحية التي أنشأها السكان بوسائل بدائية داخل عشرات مخيمات النزوح، وأكد أن هذا الوضع يهدد بانتشار واسع للأمراض والأوبئة، وخاصة بين الأطفال، في وقت يعاني فيه القطاع الصحي من انهيار شبه كامل.
وأشار الثوابته إلى أن عشرات العيادات الطبية المتنقلة التي كانت تقدم خدمات محدودة للنازحين تعرضت لأضرار كبيرة بسبب العاصفة، كما فُقدت كميات من الأدوية والمستلزمات الطبية، ما يزيد من معاناة المرضى والجرحى ويقوض أي قدرة على الاستجابة الصحية الطارئة.
اتهام مباشر للكيان الإسرائيلي
وفي لهجة حادة، حمّل الثوابته الكيان الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن هذه الكارثة الإنسانية، مؤكدًا أنه يمنع إدخال نحو 300 ألف خيمة ووحدة سكنية متنقلة إلى قطاع غزة، ويعرقل بشكل متعمد جهود إقامة ملاجئ آمنة للنازحين، فضلًا عن إغلاق المعابر أمام المساعدات الإنسانية والإغاثية الطارئة.
وقال إن “سياسات الكيان الإسرائيلي القائمة على الحصار والتجويع ومنع الإيواء تشكّل جريمة متكاملة الأركان بحق المدنيين في غزة، وتحوّل العوامل الطبيعية كالأمطار والبرد إلى أدوات قتل جماعي”، مطالبًا المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية بتحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية تجاه ما يجري في القطاع.
وفيات جديدة بسبب البرد القارس
من جهته، أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في بيان صدر يوم الجمعة عن وفاة 14 فلسطينيًا، من بينهم ثلاثة أطفال، نتيجة البرد الشديد وتداعيات العاصفة، إضافة إلى تدمير 13 منزلًا بشكل كامل، كان آخرها في منطقتي الكرامة وحي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة.
وأكد مصدر طبي في مستشفى الشفاء وفاة طفل يبلغ من العمر 9 سنوات ورضيع في أحد مخيمات النازحين في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، نتيجة انخفاض حاد في درجات الحرارة، كما أشار إلى وفاة رضيع يبلغ من العمر 8 أشهر في مخيم للنازحين بمدينة خان يونس جنوب القطاع قبل أيام، في حادثة مشابهة.
مخيمات تحولت إلى مستنقعات
وأفادت مصادر محلية بأن مخيمات النزوح المنتشرة في مختلف أنحاء قطاع غزة تحولت خلال الأسابيع الماضية، ولا سيما مع اشتداد العاصفة، إلى مستنقعات كبيرة من المياه والطين، وغمرت المياه الخيام بالكامل، فيما عجزت الأقمشة المهترئة عن الصمود أمام الأمطار الغزيرة والرياح العاتية.
وأوضحت أن آلاف العائلات قضت ليالي كاملة وهي واقفة داخل خيامها بعد أن تحولت الأرض إلى طين لزج، بينما اضطر آخرون إلى حمل فرشهم وأغطيتهم فوق رؤوسهم في محاولة يائسة لمنع غرقها.
مأساة إنسانية بلا أفق
في ظل هذه الظروف القاسية، تواجه أكثر من ربع مليون أسرة نازحة في قطاع غزة كارثة إنسانية وُصفت بأنها “تفوق الوصف”، وتتداخل أصوات بكاء الأطفال مع عواء الرياح داخل الخيام المهترئة، بينما تحاول العائلات سد الثقوب بأكياس بلاستيكية أو قطع قماش مبللة لا توفر أي حماية من البرد القاتل.
وتكشف الصور المتداولة من داخل المخيمات حجم المأساة، حيث تظهر عائلات بأكملها محاصرة بالمياه، وأطفالًا يرتجفون من شدة البرد، ونساءً يحاولن إشعال النار بوسائل بدائية للتدفئة وسط خطر الغرق أو الاختناق.
أمام هذا المشهد، جددت الجهات الحكومية في غزة نداءها العاجل إلى المجتمع الدولي، والأمم المتحدة، والمؤسسات الإنسانية والحقوقية، للتحرك الفوري والضغط على الكيان الإسرائيلي من أجل فتح المعابر وإدخال مواد الإيواء والتدفئة والمساعدات الطبية دون قيد أو شرط.
وأكدت أن استمرار الصمت الدولي إزاء ما يحدث في غزة يعني المشاركة في هذه الجريمة الإنسانية، محذرة من أن الأيام المقبلة قد تشهد ارتفاعًا أكبر في أعداد الضحايا إذا استمرت العواصف وبقي النازحون دون حماية.
وهكذا، لا تبدو معاناة غزة محصورة في القصف والدمار فقط، بل تمتد لتشمل صراعًا يوميًا مع البرد والمطر والجوع، في مأساة إنسانية متواصلة يدفع ثمنها الأبرياء، بينما يقف العالم شاهدًا على واحدة من أقسى صور المعاناة في العصر الحديث.
